غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
حين تتحدث ستيف جودجر عن الفن، لا تراه إلا مرآة صادقة لما يحدث في هذا العالم المضطرب. ترى أن الفنان الحقيقي لا يرسم بحثًا عن شهرة أو انتشار، بل لأنه يشعر أن عليه أن يعبّر.
تقول بوضوح لا لبس فيه: "أن تكون فنانًا فهذا يعني أن يكون ما تقدمه خالصًا لأجل التواصل والتعبير عن موقفك ووجهة نظرك تجاه ما يدور حولك من أحداث، وأنا أرى أن كل ما أفعله بالشراكة مع المتضامنين الآخرين هو جزء أصيل من حياتي كفنانة (..) أنا لا أرسم لوحات تجارية بهدف الانتشار، بل أوثق في لوحاتي تاريخ الصراع، ليس على صعيد ما أخبرنا به التاريخ فحسب، بل عن هذا التاريخ الذي نعيشه الآن ونصنعه باختياراتنا".
هكذا بدأت حكاية الرسامة البريطانية التي اختارت أن تحمل ريشتها إلى فلسطين، لا جغرافيًا، بل روحيًا ووجدانيًا. حين قابلتها "نوى"، كانت كلماتها تقطر صدقًا. تتحدث عن لوحاتها وكأنها شواهد على زمن يرفض النسيان، وتحوّل فيها الورق والألوان إلى صرخة ضد الظلم، وتضامن حيّ مع أرواح محاصرة في غزة تحت نيران حرب الإبادة.
لم تكن البداية مخططة. كان ذلك في الثالث والعشرين من تشرين أول/ أكتوبر 2023م، حين رأت صورة لطفلة من غزة، استشهدت وهي تمسك بقطعة خبز في يدها. لم تستطع أن تدير وجهها عن الصورة. شعرت بشيء يشبه الارتعاد. شيء صاخب في داخلها طالبها أن "تشهد" على هذه اللحظة. لم تترك المشهد يمر كما يفعل الآخرون، بل حملته إلى مرسمها، إلى لوحتها، وسكبت عليه شيئًا من قلبها.
رحلة جودجر لم تقف عند الرسم، فقد استثمرت دراستها الأكاديمية التي امتدت لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، وتوّجتها بدرجة الماجستير من جامعة "برايتون"، لتبدأ في التنقيب في أرشيف الصور، في النماذج الرقمية، في كل ما يمكن أن يمنحها فكرة أو ملمحًا عن واقعٍ تحت النار. لم تُرِد أن تكون شاهدًا صامتًا.
أنشأت موقعًا إلكترونيًا خاصًا لدعم فلسطين (www.artistssupportingpalestine.org)، وجعلت منه منصة لمزاد لوحاتها، حيث تُباع لصالح منظمة المساعدات الطبية في فلسطين(MAP) . لم تكن تبحث عن أرباح، بل عن معنى. كانت عوائد البيع تذهب مباشرة لدعم الأطفال والمنظمات العاملة في غزة.
بعدها، قررت أن تمكّن الأطفال من التعبير عن أنفسهم، عن ذكرياتهم الضائعة، عن ألعابهم المحروقة. بدأت بمساعدتهم على رسم لوحاتهم الخاصة، وشيئًا فشيئًا تحوّلت هذه الرسومات إلى مشروع إنساني.
تُعرض اللوحات على موقعها، وتُربط كل واحدة منها بحساب (go fund me) خاص بصاحبها، فيكون الشراء بمثابة تبرع مباشر، دون أن تأخذ هي فلسًا واحدًا من ذلك.
وذهبت أبعد من ذلك بالتعاون مع شريكها، مصمم الجرافيتي، بدأت العمل على مشروع إنتاج قمصان مطبوعة برسومات الأطفال، تُباع بالحجز المسبق عبر الموقع نفسه، وتذهب إيراداتها بالكامل إلى حسابات الأطفال، كما اعتادت أن تفعل دائمًا.
أكثر من مئة لوحة رسمتها ستيف عن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، لم تكن كافية. شعرت أن الوقت حان لتُسمِع العالم صوتًا آخر. هكذا وُلد فيلمها القصير "كل عشر دقائق"، في إشارة مأساوية إلى استشهاد طفل غزي كل عشر دقائق. لم يكن مجرد شريط مصور، بل كان مرثية بصرية.
يظهر في الفيلم أطفال استشهدوا أو فقدوا أطرافهم، ترافقهم المعلومات التي استطاعت الوصول إليها عن كل واحد منهم. بعضها كان متاحًا، وبعضها ظل غامضًا لأشهر.
من القصص التي لن تنساها، حكاية طفل فقد قدمه وذراعه وعينه اليمنى، رسمته وهي لا تعرف من هو، وبعد شهور، وخلال تصفحها منصة "إنستغرام"، عثرت على منشور يتضمن رابطًا لـ( go fund me) فتعرفت على صورته، واسمه: وحيد الغلبان. لم تكن تعرف ما إذا كان لا يزال على قيد الحياة.
وفي خلفية الفيلم، صوت يشبه النور. ترنيمة "يلا تنام" بصوت سيدة فلسطينية تُدعى سوزان، أدخلت الحياة في الصور، وأضفت عليها لمسة إنسانية لا تُنسى. لم يكن الأمر فنيًا فقط، بل كان فعل مقاومة.
تخبرنا ستيف: "ما يعيشه الفلسطينيون يكشف لنا عن موت إنسانيتنا في الغرب، وعن فقرنا الأخلاقي بشكل مؤسف. لم أكن أدرك حجم ما كان يحدث وماهية جذوره التاريخية، أما الآن، فأنا أتابع عن كثب كل ما يجري من إبادة جماعية وجرائم حرب ضد الإنسانية. إن ذلك يلقي علينا واجبات مضاعفة للاستمرار في كشف ما يجري ومقاومة الظلم، هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع فيها الضغط على حكوماتنا عن طريق كل وسائل الاحتجاج المتاحة".
وفي امتنانٍ صادق، تضيف: "من المهم جدًا سرد القصص وإظهار الحقائق التي يريدون إخفاؤها وتدميرها، ولذلك أنا ممتنة جداً للصحافة القادمة من غزة على شجاعتهم المفرطة في توثيق وإظهار أهوال الحرب كي نعرفها نحن، وكذلك للأطباء ورجال الإنقاذ والأطفال تحت القصف، ولجميع المتمسكين بحقهم في حياة كريمة وآمنة"، مردفةً بابتسامة: "نحن بدورنا نقف معكم وندعمكم في الحصول على هذه الحقوق المشروعة".