شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم السبت 20 ابريل 2024م01:26 بتوقيت القدس

شقيقتان من عائلة عدس..

دانيا وإيمان وضحكات "آخر الوقت".. شهداء في قبرٍ واحد

10 مايو 2023 - 17:22

شبكة نوى، فلسطينيات: غزة:

تغيب أم حمزة بين مشاهد الذاكرة، تصفعها الصدمة من جديد كلّما همّت سيدةٌ لمصافحتها معزّية، فتعود لتسأل نفسها: "هل أنا في حلم؟". بالأمس فقط، كانت تحادث ابنتيها دانيا وإيمان وتضحك، وها هي اليوم صارت "الثكلى.. أم الشهيدتين".

تقول: "رأيتهما. كانتا مضرجتان بالدم، وودعتهما بالدموع. صاروخٌ قضى على حياتهما معًا، وأبقى لي حمزة طفلًا وحيدًا يتجرع مرارة الفقدان معي".

الشهيدتان دانيا وإيمان عدس (19-17 عامًا)، ارتقتا فجر الثلاثاء في قصف إسرائيلي طال بيتًا مجاورًا لبيت عائلتهما في حي الشعف شرقيّ مدينة غزة. تمامًا بعد نصف ساعةٍ فقط من آخر ضحكاتٍ سمعتها أمهما تتسلل من أسفل باب غرفتهما بينما شقيقهما الصغير نائم.

تخبرنا وهي تحاول هزيمة دموعها: "كانت الساعة الواحدة والنصف ليلًا، رأيتهما لآخر مرة تجلسان في غرفتهما على سريرٍ واحدٍ وتضحكان، كانتا بوجهين صافيين، فألقيت عليهما سلامًا ورمقتهما بنظرةٍ طويلة، كانت هي فصل الختام".

وشنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي فجر الثلاثاء ثلاث غارات على منازل سكنية في رفح ووسط وشرقي مدينة غزة، أدت إلى استشهاد 13 مواطنٍ ومواطنة بينهم 4 أطفال.

البيوت المستهدفة تعود لكل من جهاد الغنام، وطارق عز الدين، وخليل البهتيني، وهم من قادة حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة. دانيا وإيمان استشهدتا في القصف الذي طال منزل البهتيني، الذي دمّر الجزء الخلفي من منزل علاء عدس والد الفتاتين، وطال غرفة نومهما المجاورة له.

أم حمزة التي اضطرت لترك بيتها المدمّر والذهاب لبيت أقارب لهم، جاهدت لتكتم دموعها، لكنها لم تستطع، ثم أكملت بصوتٍ يختنق: "بعدما غفوت، فجأة شعرت أن البيت انقلب، فتحت عينيَّ فلم أرَ بسبب الظلام شيئًا، حاصرتني رائحة البارود والدخان، فأضأت الجوال وهرعت لتفقد أبنائي. وجدت حمزة يبكي، وقد حال الدخان والركام من دخولي لغرفة البنات".

خرجت السيدة إلى الشارع وهي تصرخ "بناتي بناتي"، فتأخر الجيران في فهم قصدها عندما رأوا واجهة المنزل سليمة، بينما حال حريق المنزل المستهدف من لفت انتباه أحد، حتى تنبّه أحدهم وبدأ بالصراخ لجلب النجدة.

سرعان ما خرج أحدهم حاملًا "بطانية" يلفّ بها واحدة، المشهد لم يكن بحاجةٍ إلى تفسير، فالجثمان غير كامل. داخل البطانية تختبئ قطع لحم متناثرة غير معروفةٍ لمن هي، ضمّتها وقد ألجمتها الصدمة، فنظرت بذهولٍ إلى بطانيةٍ أخرى خرج بها جارٌ آخر ففهمت.. ولم تكن تريد أن تفهم.

دانيا (19 عامًا) طالبة متفوقة في قسم إدارة الأعمال، وهي مخطوبةٌ منذ ثلاثة أشهر. كانت تخطط لزفافها وتخرجها بينما يسابقها الفرح، أما إيمان (17 عامًا) فتهوى الرسم والنقش على الخشب بالحرق وإعادة التدوير، حتى أنها كانت تحلم بأن تصبح "رسامة" يعرفها الكل. ترسمُ لفلسطين، وتخطُّ لحريتها نقشًا تشهد عليه أجيال التحرير.

قبل فترةٍ وجيزة، أحضرت لها أمها صناديق فيها الألوان بأنواعها، ومواد لإعادة التدوير. فقد أرادت تحضير رسومات ومجسمات، تفتتح بها حياتها الجامعية ضمن معرضٍ مميز تقيمه بمجرد التحاقها بالجامعة.

وعن دانيا، فـ"ككل أمهات الكون كنتُ أريد أن أفرح بابنتي وهي ترتدي ثوب الزفاف، لكن يا للأسف، هذا هو نصيبنا من الفرح، الحلم فقط" تعقب السيدة المكلومة.

وتتساءل: "كيف سأعود للعيش في بيتٍ فقدتُ فيه قلبي؟"، كل ما تفكر فيه الآن احتواء طفلها حمزة (11 عامًا)، الذي قتله الحزن على شقيقتيه.

ومن وسط دموعه يتحدث حمزة فيقول: "أنا بحب خواتي كثير. راح أشتاق إلهم، ومش عارف كيف رح نرجع نعيش في الدار وهما مش فيه".

حين حدث القصف لم يسمع حمزة شيئًا، فقد سقط كل شيءٍ فوق جسده الصغير بعنف، وانقطعت الكهرباء. انسلَّ من غرفته مسرعًا، فوجد أمه التي حملته إلى الشارع لكنه لمح غرفة شقيقاته التي تحوّلت على ركام.

يزيد: "أنا خايف كتير، وزعلان كتير على خواتي"، لكنه عاقدٌ العزم على أن تظلّ ذكراهن في البيت بما حملن من أدبٍ واجتهادٍ وطموح، وأن يهديهن كل نجاحاته في المستقبل.

والدهن أبو حمزة كان يحمل بين يديه طوقًا من الخيش والورد وجده تحت الركام، هو كل ما تبقى من مشغولات "إيمان" الفنانة الصغيرة، ينظر إليه بحسرةٍ ويقول: "كانت إيمان رقيقة وحساسة وذكية ومهذبة. كنا مثل الأصدقاء، وكانت قريبة مني كثير".

رقّة إيمان انعسكت -حسب والدها- على جمال تصاميمها التي تحطمت تحت الركام، لكن بقايا طوق الخيش المحاط بالورد تشهد على موهبةٍ حُرمت صاحبتها من أن تظهر للعلن كما تمنّت.

يكمل: "أتمت إيمان حديثًا حفظ الجزء الخامس عشر من القرآن، وكنت كلما أتمّت جزءًا أقدم لها هدية. في هذه المرة كانت هديتها هاتفًا محمولًا. إيمان تستحق كل ما هو جميل".

لطالما شجّع أبو حمزة ابنته على المضيّ قدمًا نحو طموحها، وزاد مصروفها لتوفّر مستلزمات الرسم، لكن الاحتلال دفن جسدها وأحلامها في آنٍ معًا، وترك في قلبه وقلب أمها نارًا لن يطفئها الزمان.

كل زاوية في البيت تحمل ذكرى للفتاتين، بقايا دولابهن وملابسهن، أطباق الطعام التي كانتا تحضرانها لأبيهما وتطلبان رأيه فيها، حتى فناجين القهوة التي لطالما قدمتاها له، وخفة ظل الصغيرة إيمان، التي كلما رأته مازحته بالقول: "شكلك ناسي المصروف يا بابا". كل هذا كيف سيمر على قلبه؟ لا يدري بعد، ولكنه يهوّن على نفسه بأنهما "شهيدتين في عليين بإذن الله" يختم.

اخبار ذات صلة
كاريكاتـــــير