غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في جنح الليل، وبين أصوات القصف وأنفاس الرياح، واجهت نانسي أبو مطرود لحظة لن تُمحى من ذاكرَتها. كانت حاملًا في توأمين عندما اجتاح القصف حيّها في غزة، فقررت هي وزوجها وطفلتهما ابنة العامين النزوح إلى الجنوب. "حيث يدعي الاحتلال أنها منطقة إنسانية" تقول بحرقة.
حاولوا الهروب من الدمار. المشي كان بطيئًا، والدمع في عينيها يسبق الخطوات. ثلاثة أيامٍ كاملة من التعب حتى وصلت العائلة إلى منطقة تسمى تبّة النويري غربي مخيم النصيرات. هناك افترشت نانسي الأرض وألقت بجسدها المنهك الثقيل تستجدي الراحة. لحظاتٌ وبدأ ألمٌ يقضمها من الداخل، كأن جسدها يقول لها "إلى هنا، ويكفي". "كنت في الشهر السادس.. لم يكن موعد ولادتي، لكن الألم كان ألم ولادة" تضيف.
وضعت التوأمين قبل الأوان، في مكانٍ لا يليق بالميلاد، تحت السماء المظلمة، وسط دمارٍ يلتهم الأمل.
حين استيقظت بعد دقائق، وجدت حبيبيها وقد فارقا الحياة.. التوأم الأول مات في مستشفى العودة بالنصيرات، والثاني لم يصبر على الحياة إلا يومين فقط، في حضّانة شهداء الأقصى.
لم يتبقَّ لنانسي سوى طفلتها الصغيرة، حبيبة والدها التي زارت حياته بعد حرمان من الإنجاب لعقدين. جائعة، وهزيلة، وينهش جسدها سرطانٌ أصيبت به في الحرب. تحكي أمها: "لا أريد أن أخسرها هي الأخرى. إنها تحتاج لعلاجات متقدمة ودواء لا يتوفّر سوى في المستشفيات الكبرى التي أغلق الكثير منها تحت القصف".
يجلس زوجها فرج الغلايني بالقرب منها، متأثرًا لحالها. يُطعم ابنته بملعقة غسلتها زوجته بالرمل وبعض الماء. يقول بصوتٍ مكسور: "ما ذنب أطفالنا؟".
له ثلاثة رحلوا، التوأمين، وآخر توفي في بطن أمه مطلع الإبادة! يراقب الرجل ابنته الصغيرة، وتدمع عينه. "ماذا لو فقدتها هي أيضًا؟" يتساءل بحرقة.
أيامٌ تلَت، ونانسي تنام في عتمة الخوف، تراقب تنفس ابنتها الضعيف، تسمع ضربات قلبها كل دقيقة، لم يعد يربطهما سوى شريط الأمل الرفيع. تغفو وهي تدعو أن تستيقظ دون دمعة، وألا تفقد آخر ورقة من ظلالها في هذه الحرب التي سلبتها كل شيء.
من بين الأنقاض، ترفع نانسي صوتها. تناجي الجهات الإنسانية: "أنا لا أطلب سوى مأوى وطبيب، لا أريد أن أفقد ابنتي أيضًا"، لكنها تعلم أن الصوت هنا يُخنق بين أصوات القصف والمجاعة.
في غزة اليوم، ليس الموت فقط من يقتل الأجساد، بل الفقد في الأرحام، والحرمان من الأمل، وغياب الدواء، وصمت العالم أمام أنفاسٍ تضيع وسط الخراب. قصة نانسي تُكرّر نفسها في آلاف القصص.. في خيمةٍ الصغيرة وسط القطاع المحاصر، تواصل ابنة نانسي الوحيدة المعركة، لتُعلن أن البقاء هو حقٌ لا يستجديه أحد، بل تخلقه الأمهات في ليلٍ بلا نجوم.