غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تحت الإبادة، يموت الآباء في طريقهم للحصول على الحليب لأطفالهم. يركضون وسط الركام والرصاص، محاولين انتزاع أي فرصة لعيش صغارهم، لكنهم يعودون بالكفن. يبقون جوعى، يُحرمون من حليب اليوم، ومن ذراع الأب الذي حاول، وهذا تمامًا ما حدث مع سفيان أبو عودة.
كان واحدًا من بين أكثر من 1300 فلسطيني قضوا أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات الإنسانية التي تُوزع عبر ما تُعرف بـ"مؤسسة غزة الأمريكية"، التي تحوّلت مراكزها إلى مرتعٍ للموت، بقرارٍ لا يتطلب أكثر من إشارة من إصبع جندي، يشعر أنه في لعبة! مدججٌ بالسلاح أمام خصمٍ أعزل وهزيل، يضغط الزناد فينتشي، وكأن المشهد لا يستدعي محاكمة أو سؤالًا، وكثير من مقاطع الفيديو تشهد.

سفيان، الأب الشاب، خرج من خيمته المهترئة في خانيونس جنوبي قطاع غزة، يحمل على كتفيه قلق الجوع، وفي قلبه صرخة ابنه "بهاء"، الذي لم يكمل شهره الرابع. سعى خلف علبة حليب واحدة، يعلم أن الطريق معبّد بالرصاص، وأن مشاهد القنص والقتل عند نقاط توزيع المساعدات لم تعد استثناء، بل واقعًا يوميًا يتكرر. ومع ذلك، كان مضطرًا.
في صباح ذلك اليوم، طلبت منه زوجته أن يرتاح قليلًا، كان مرهقًا ومنهكًا بعد ليلة طويلة من العطش والخوف، لكنه أجابها كما تروي والدته أثناء وداع جثمانه: "لا أحد تحت الإبادة يشعر بالراحة.. قال لها: إن لم أركض من أجل حياة طفلي، سيركضون في جنازتي بعد موته جراء نقص الحليب".
ربّ أسرة مكونة من ستة أفراد، عاش سفيان قرابة عامين تحت القصف والدمار والمجاعة والعجز الكامل. لم يتمكن من شراء حفاضات لطفله، فكانت زوجته تلجأ إلى ملابس ممزقة كبديل. أما الحليب، فقد أصبح سلعة نادرة، شبه محظورة بفعل الحصار، وغائب تمامًا عن رفوف المساعدات، حتى تلك المُخصصة للأطفال.
خرج سفيان، ولم يعد. سقط شهيدًا أثناء محاولته الوصول إلى المساعدات في إحدى النقاط جنوبي خانيونس. لم يحمل الحليب، بل حُمل هو بالكفن، وملابسه غمرها الدم. حمله الناس على الأكتاف، لا بصيحات النصر، بل بصمت العاجزين.
تجلس والدته وتبكي، وتقول إنه "ترك خلفه زوجة مفجوعة، وطفلًا لا يجد من يطعمه أو يحتضنه، وأربعة إخوة في عمر الوجع". لم يرد اسمه في الأخبار العاجلة، لكنه كان واحدًا من المئات الذين يسقطون يوميًا بنفس الطريقة، فيما بات يُعرف بـ"مجازر المساعدات"، حيث يُستهدف الفلسطينيون وهم يصطفّون في طوابير بحثًا عن كيس دقيق، أو وجبة ساخنة، أو عبوة مياه.
في مأتمه، لم تُسمع صرخات الغضب، بل صوت أخيه وهو يبكي ويتأمل الرضيع، ذلك الطفل الذي أخذ ينظر إلى جثمان أبيه محاولًا مداعبته. لم يكن يعلم أن هذا هو اللقاء الأخير، ولم يدرك أن من كان يركض من أجل نجاته، بات جزءًا من سردية الموت الجماعي في غزة.























