غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تسير الفواجع في غزة أفواجًا، يتيه المرء بينها، تختلط التفاصيل ربما، لكن المؤكد أن لكل قصة موت رواية مختلفة. ولصفاء الفراماوي واحدة تشلع القلب من محله. "كنا أسرة من سبعة أفراد، صرنا ستة، وكدنا أن نصبح خمسة. كأن عداد الموت يقصدنا" تحدث نفسها قبل أن تبدأ بسرد التفاصيل.
لم تكن تعلم أن رحلتها إلى مركز المساعدات ستكون آخر ما يمرّ على أكبر بناتها في هذه الحياة. اسمها غزل، وعاشت خمسة عشر عامًا فقط، كانت تحلم بأن تعود بكيس من الطحين تسدّ به جوع إخوتها الستة، لكن رصاصة قنّاص إسرائيلي سبقتها إلى الحلم، وأردتها شهيدة في لحظة خاطفة. ارتطم جسدها بالأرض، وتناثر دماغها أمام عيني والدتها، فبدا المشهد وكأن السماء أسقطت نورها، ثم انطفأت.
هزّت الفاجعة قلب صفاء، وعزلتها عن الحياة لأكثر من شهر، مكثت خلالها في خيمتها منهكة، مصابة بصدمة لم يُبقِ فيها الألم مكانًا للدموع. كانت العائلة تعتمد على التكيّات الخيرية في الحصول على الطعام، لكن ما يأتي منها بالكاد يكفي لسدّ الرمق. لم يكن أمام الأم المكلومة سوى الصبر، وإن كان الجوع لا يمهل أحدًا.
في إحدى المحاولات التالية للحصول على المساعدات، أخذت صفاء ابنتها جنى، وعمرها ثلاثة عشر عامًا، إلى مركز التوزيع في رفح. لم يكن الحذر كافيًا لحمايتهما من الخطر المتربص، فقد أُصيبت جنى بشظايا، استقرّت إحداها في كبدها، وأخرى مزّقت أجزاء من جسدها النحيل.
تضيف صفاء: "لم تكن هذه الإصابة الأولى، بل سبق أن أُصيبت في محاولة سابقة أيضًا، لكننا لم نكن نملك ترف التراجع، فهذا خيارنا الأوحد، تحت الإبادة والتجويع".
وفي صباح آخر، قيل إن التوزيع مخصص للنساء. تخبرنا صفاء بأنها ذهبت وحدها مُجبرة، لكنها فوجئت بقوات الاحتلال تطلق غاز الفلفل والغاز المسيل للدموع تجاه النساء المتواجدات. لم تحصل على شيء في ذلك اليوم، سوى حروق في جسدها ودموع ممزوجة بحرقة الخيبة.
لم يكن أمام صفاء ما تبيعه لتطعم أبناءها، سوى ملابس العيد التي اشترتها لغزل قبل استشهادها. وقفت أمامها طويلًا، لمستها بيديها المرتجفتين، كأنها تعانق غزل للمرة الأخيرة.
وتزيد: "عدت إلى خيمتي منهكة وحزينة، حملت كيسًا فارغًا على أمل تعبئته ولو بفتات، لكنني عدت به كما هو، شعرت أنه يشبه بطون أطفالي الخاوية، ومن بينهم أصغرهم، ابن العامين ونصف فقط".
لم يكن أمام صفاء ما تبيعه لتطعم أبناءها، سوى ملابس العيد التي اشترتها لغزل قبل استشهادها. وقفت أمامها طويلًا، لمستها بيديها المرتجفتين، كأنها تعانق غزل للمرة الأخيرة، ثم انطلقت بها. وتعلّق هنا: "يعزّ علي بيع آخر ما فرحت به صغيرتي، لكن لم يجبرني على المرّ سوى الأكثر مرارة، أن أفقد الملابس بدلًا من أن أفقد نفسي أو أحد أبنائي الآخرين، وكل هذا في سبيل إطعامهم".
غابت غزل، لكن الجوع لم يغب، ولا الخوف، ولا القصف، ولا الرصاص، ولا الموت. لا تزال صفاء تحاول الركض بكيسها الفارغ علّها تملأه ولو بفتات من العدس، لتلجم صوت أمعاء أبنائها الذي ينادي جوعًا. هكذا، في واحدة من فواجع الإبادة.























