شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025م03:31 بتوقيت القدس

فصولٌ قاتمة من جريمة "التجويع" بغزة..

"كرامةٌ" تُنتهك على ميزان "الإبادة".. أرز وطحين بالجرام!

31 يوليو 2025 - 13:29

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في منطقة السرايا، قلب مدينة غزة الذي كان ينبض بالحياة والخير، يقفُ الغزي اليوم شاهدًا على مشاهد الخراب والفقر، وقد أصبح السوق فيها تجسيدًا مريرًا لكل ما دمرته الحرب.

هناك، تفترش الأرض بقايا ما نُهب من المساعدات، وتُعرض البضائع بالجرامات! تغيّرت الأسئلة في هذا المكان، فلم يعد السؤال المعتاد: "بكم الكيلو؟" بل أصبح: "بكم الغرام؟". يشتري الناس بالغرام، ويزن الباعة بالغرام، وكأن الحياة بأكملها انكمشت لتُقاس على ميزان أدق من الوجع.

في غزة، لم تعد وحدات القياس كما كانت؛ "الكيلو" بات حلمًا بعيد المنال، أما "الجرام" فأصبح حقيقة يومية تحكم موائد الجائعين.

من الأرز والسكر، إلى البندورة والفلافل، وحتى الجبن، كل شيء يُشترى بالغرامات. لقد أعاد الجوع تشكيل تفاصيل الحياة اليومية وفرض على الناس مفاهيم جديدة للبقاء. ومع استمرار منع الاحتلال دخول الشاحنات إلا بأعداد قليلة لا تكفي لسد رمق ثلث السكان الذين يرزحون تحت نير الحرب والحصار، تصاعدت أسعار المواد الغذائية بشكل غير مسبوق.

في أزقة سوق السرايا، حيث كانت الرفاهية يومًا ما عنوانًا للمكان، تقف أم محمد أمام بائع البهارات. لا تطلب كيلوغرامًا ولا نصفه، بل تقول بصوت خافت: "أريد بخمسة شواكل، فكم تعطيني؟". يضع في يدها كيسًا صغيرًا، فتُخرج من حقيبتها خمسة، كأنها تشتري بها قوت يوم عائلة كاملة.. بالغرام.

وبينما تهمّ بالمغادرة، تتخطاها امرأة أخرى. جسدها النحيل ووجهها الذابل يرويان تفاصيل الحرمان من دون أن تنطق. اقتربت من البائع وهمست: "أريد جرامًا من المادة المحلية، "المادة التي لجأ إليها أهل غزة كبديل عن السكر المفقود، أو ذاك الذي أصبح من الترف اقتناؤه".

"في هذا السوق، لم يعد السكر متاحًا إلا لتاجر محتكر، أو لأحد لصوص المساعدات"، كما يصف الأهالي بمرارة. أما المواطن العادي، الذي كان يعتاش على راتب بالكاد يكفي احتياجات أسرته، فلم يعد قادرًا على اللحاق بجنون الأسعار.

"املأ لي الكأس طحينًا، لا أقدر على شراء كيلو". الكأس لا تكفي إلا لعجنة صغيرة بالكاد تُخرج ثلاثة أرغفة. لكنها تُصبح وجبة لأم جائعة، أو طفل يتلوّى من الألم.

اشترت تلك المرأة جرامًا واحدًا من ذلك البديل، علّه يُحلّي كوب شاي في بيتها، يخفف قليلاً من مرارة الأيام التي يعيشها الناس في غزة، مرارة تفوق طعم العلقم.

وعلى مقربة، كان فتى يافع يبيع الطحين في أكياس صغيرة. اقترب منه رجل خمسيني، حذاؤه ممزق وملابسه بالية. لم يعد في غزة متسع للكماليات؛ لا حذاء جديد، ولا ملابس تُستبدل. بالكاد يجد الناس ما يطعمون به أبناءهم وسط الحصار والحرب. حمل الرجل كأسًا صغيرًا، وقدّمه للفتى برجاء: "املأ لي الكأس طحينًا، لا أقدر على شراء كيلو". الكأس لا تكفي إلا لعجنة صغيرة بالكاد تُخرج ثلاثة أرغفة. لكنها تُصبح وجبة لأم جائعة، أو طفل يتلوّى من الألم، أو تُقسم على ستة أفواه ينهشها الجوع دفعة واحدة. بعد أن اشترى كأسًا لا كيسًا من الطحين.

خلف طاولة خشبية مهترئة، جلس أبو خليل، وهو بائع في سوق السرايا. أمامه كميات ضئيلة من البقوليات والزيت والطحينة. حين سُئل عن البيع بالغرامات، ضحك ضحكة باهتة وقال: "أنا أيضًا أشتري بالغرامات. لا أستطيع شراء كميات وتخزينها. أشتري من تاجر الجملة، فأنا لست من يسرق المساعدات. أشتري لأبيع وأسترزق، أبيعها للناس بالغرام، وأتوسل ألا أخسر."

أشار إلى ميزانه المتآكل وأكمل: "الناس لا يملكون المال. تأتي إحداهن وتطلب جرامات من الطحينة أو الزيت، والله قلبي يتكسر. لكن ماذا نفعل؟ الجوع كاسر للجميع". وأضاف بصوت تخنقه الغصّة: "كنا نضحك مع الزبائن ونبيع بالكيلو ونمزح، اليوم كل شيء أصبح حزينًا. حتى البيع بات ثقيلًا."

"الشراء بالجرام" لم يظهر فجأة، بل هو انعكاس لانهيار اقتصادي مركب كما يشرح الصحفي الاقتصادي أحمد أبو قمر. ويرى في هذه الظاهرة أربعة مؤشرات متداخلة: الفقر المدقع، ونقص السيولة، وانهيار القوة الشرائية، والارتفاع الجنوني في الأسعار.

ويقول أبو قمر: "نحن لا نتحدث فقط عن فقر يمنع الناس من شراء السلع، بل عن أزمة سيولة خانقة. حتى من يملكون المال في حساباتهم لا يستطيعون سحب النقد بسهولة. اليوم، من يريد سحب 100 شيكل قد يضطر لدفع 200 شيكل بسبب أزمة التكييش".

ويُضيف: "الأمهات كنّ في الماضي يشترين بـ"الدستة" أو بالكيلو، أما اليوم فالغرام هو سيد السوق: "10 شواكل سكر، 10 شواكل حمص.. كل شيء يُجزّأ لأن الناس غير قادرة على شراء كميات".

"ما يميز غزة أننا لا نملك عملة وطنية تنهار كما حدث في سوريا أو العراق، بل نتعامل بعملة الاحتلال، الشيكل، ما يجعلنا تحت تحكم مالي خارجي كامل".

ويرى أن هذه الظاهرة لا تقتصر على غزة، بل ظهرت في دول أنهكتها الحروب أو الانهيارات الاقتصادية، مثل سوريا واليمن وفنزويلا. لكنه يستدرك: "ما يميز غزة أننا لا نملك عملة وطنية تنهار كما حدث في سوريا أو العراق، بل نتعامل بعملة الاحتلال، الشيكل، ما يجعلنا تحت تحكم مالي خارجي كامل".

في السياق ذاته، يشير إلى أن الأسواق الغزية لم تعد تُدار بمنطق العرض والطلب، بل تحولت إلى ساحة لجريمة اقتصادية مكتملة الأركان، تقودها شبكة من التجار المنتفعين بتواطؤ مع سلطات الاحتلال: "الاحتلال اختار تجارًا محددين لتمرير السلع، ومنحهم تصاريح خاصة، بينما أُقصي من يرفضون الاحتكار. هؤلاء يتحكمون في السوق ويساهمون في إذلال الناس."

ويتابع: "ظهر جيل من المستغلين، شباب لا تتجاوز أعمارهم عشرين عامًا، يديرون نقاط توزيع ويتحكمون في الأسعار بالقوة. هذا يعكس خللًا اجتماعيًا يعيد إنتاج التفاوت الطبقي"، مؤكدًا أن الأسعار وصلت إلى مستويات غير منطقية، حيث "قيل إن سعر السكر ارتفع بنسبة 8000%، وهذا استغلال فجّ لمعاناة الناس. لا نمانع الربح، حتى في أوقات الحرب، لكن ليس بهذا الشكل غير الإنساني".

"هذه السياسة أسوأ من الإغراق. إدخال 5% فقط من الاحتياج يجعل كل كيلو طحين سلعة ثمينة تُباع بـ60 أو 100 شيكل، بعدما كانت لا تتجاوز 3 شواكل".

ومن أخطر ما ذكره أبو قمر ما يُعرف اقتصاديًا بسياسة "التقطير"، حيث تُدخل السلع بكميات شحيحة تُبقي السوق في حالة عطش دائم: "هذه السياسة أسوأ من الإغراق. إدخال 5% فقط من الاحتياج يجعل كل كيلو طحين سلعة ثمينة تُباع بـ60 أو 100 شيكل، بعدما كانت لا تتجاوز 3 شواكل."

وأضاف: "المدخرات تبخرت. كنا نوفر لشقة أو سيارة. الآن، كل ما نملكه يُصرف على الأرز والطحينة"، مؤكدًا في ختام شهادته أن "الشراء بالجرام" هو انعكاس لأزمة اقتصادية حادة ومستدامة تستوجب تدخلًا عاجلًا من الجهات الدولية والمحلية، لكسر دوائر الاحتكار والجشع، وتوفير دعم غذائي ونقدي فعّال.

وأردف: "حين يغيب القانون، يتمادى المستغلون. القوانين الاقتصادية قائمة على أنظمة وأساليب تسويق، لكن اليوم لا نعيش أي شكل من أشكال الرقابة أو التنظيم."

"من أصل 100 حصة، هناك 10 سُرقت، و20 تجاوزت الخطوط الحمراء. باختصار، لا توجد رقابة حقيقية، وهذا الواقع يعمّق الأزمة الاقتصادية ويزيد من معاناة المواطنين".

وشدد على أن السوق السوداء باتت تتحكم في معظم القطاعات الاقتصادية، حتى القطاع المصرفي، الذي يُعد من أكثر القطاعات حساسية: "لم يعد بيد الحكومة، بل بات خاضعًا لسيطرة السوق السوداء وبعض التجار المتنفذين، حيث تصل نسبة تحكمهم إلى 45% وربما 50% قريبًا."

واختتم بالقول: "من أصل 100 حصة، هناك 10 سُرقت، و20 تجاوزت الخطوط الحمراء. باختصار، لا توجد رقابة حقيقية، وهذا الواقع يعمّق الأزمة الاقتصادية ويزيد من معاناة المواطنين".

ومع ما نراه ونسمعه من مشاهد وأسعار تفوق القدرة، ومعيشة تتحدى الحد الأدنى من الكرامة، تبقى الحقيقة ماثلة للعيان: "مال الحرب للحرب". لن تدوم حياةٌ بُنيت على احتكار الجوع، ولن تصمد سلطة أُسست على إذلال الناس. الكرامة التي تُسحق اليوم، ستنهض من رمادها ذات يوم، والحق المسلوب لن يغيب إلى الأبد.

كاريكاتـــــير