شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025م03:31 بتوقيت القدس

شقيقان مصابان بضمور دماغي وضعف في النمو..

عمّار وفدوى.. "العلاج بالأمل" تحت ركام الإبادة!

28 يوليو 2025 - 14:03
الطفلان عمار وفدوى هاشم برفقة والدهما
الطفلان عمار وفدوى هاشم برفقة والدهما

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في زاوية ضيقة من منزل متواضع بحيّ الصبرة وسط مدينة غزة، وبين أصوات الطائرات التي لا تنقطع ورائحة البارود التي تغمر الهواء، يكبر عمار وفدوى هاشم في ظروف لم تمنحهما الحياة فيها بداية عادلة، ولا الحرب فرصة للنمو الطبيعي كأقرانهما.

تبدأ حكايتهما منذ لحظة الولادة، لكنها لا تتوقف عندها. إنها حكاية يتراكم فيها الألم فوق الألم، من مرض مزمن، إلى حصار خانق، ثم إلى حرب قاسية تُطفئ بصيص الأمل كلما أشعلت الأسرة شمعة جديدة في طريق العلاج.

"منذ أن وُلدا، لم يتحركا مثل باقي الأطفال. حركات لا إرادية، لا يمسكان شيئًا، وكأن أجسادهما لا تستجيب لما تريد أرواحهما قوله. من وقتها، أدركت أن الطريق سيكون طويلًا".

عندما وُلد عمار، لاحظ الأطباء أن شيئًا ما ليس على ما يرام. ضمور دماغي، وضعف في النمو، وجسد هزيل لا يستجيب كما ينبغي. كانت مهاراته الحركية والنطقية متأخرة بوضوح، ونموه يختلف تمامًا عن باقي الأطفال. لم يمضِ سوى أقل من عامين حتى وُلدت فدوى، التي بدأت تظهر عليها الأعراض ذاتها: ارتخاء في العضلات، وضعف عام في النمو، وعجز عن الجلوس باستقلالية أو التحكم في الأطراف الصغيرة.

يقول والدهما، محمود هاشم لـ"نوى": "منذ أن وُلدا، لم يتحركا مثل باقي الأطفال. حركات لا إرادية، لا يمسكان شيئًا، وكأن أجسادهما لا تستجيب لما تريد أرواحهما قوله. من وقتها، أدركت أن الطريق سيكون طويلًا".

ومع هذا الإدراك، بدأت العائلة رحلة البحث عن العلاج. تنقّل الأبوان بين العيادات، وأخضعا الطفلين لجلسات علاج طبيعي، واتبعا برامج تأهيلية مكثفة وفقًا لتوصيات الأطباء. "لكن هذا المسار لم يكن سهلًا، لا نفسيًا ولا ماديًا" يخبرنا.

"كانت الجلسات يومية، وكل جلسة تكلفنا الكثير. استأجرنا كرسيًا متحركًا، وجهاز مشي لفدوى. عملنا ليلًا ونهارًا حتى نتمكن من دفع التكاليف... لكننا تعبنا".

ويتابع: "كانت الجلسات يومية، وكل جلسة تكلفنا الكثير. استأجرنا كرسيًا متحركًا، وجهاز مشي لفدوى. عملنا ليلًا ونهارًا حتى نتمكن من دفع التكاليف... لكننا تعبنا".

ومع الوقت، تآكل الأمل تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة في قطاع غزة، وتوقف الدعم الخارجي، ما دفع الأب إلى اتخاذ قرار قاسٍ: التوقف عن مواصلة العلاج، قناعة منه بأن التحسن لم يعد ممكنًا.

سنوات مضت، تحملت خلالها الأسرة صمت الجدران وجمود الأجساد، إلى أن التقى الأب بطبيب أعاد إليه شيئًا من الأمل الضائع. نصحه بإعادة الأطفال إلى جلسات العلاج الطبيعي، مع إعطائهم الفيتامينات والمكملات الغذائية التي تعزز من صحتهم.

"أعدناهم للعلاج، واشتريت ما استطعت من الفيتامينات، وبعد فترة، استطاعت فدوى أن تمشي قليلًا. كان ذلك اليوم أجمل من كل حياتي"، يقول الأب، والدمعة تحاول أن تخفي نفسها بين تجاعيد التعب.

رغم هذا التقدم البسيط، لم تنتهِ المعاناة. فدوى بحاجة إلى عملية جراحية عاجلة في العظام، بينما يحتاج عمار إلى جلسات تأهيل مستمرة، وأدوية ومغذيات باهظة الثمن لا قدرة للأسرة على توفيرها.

ومع اندلاع العدوان على غزة، دخلت العائلة في نفق مظلم من جديد. توقفت الجلسات، وتهدمت الطرق المؤدية للمراكز الصحية، وتراجعت حالة الطفلين بشكل ملحوظ.

"لا طعام، لا فيتامينات، لا أحد يسأل عنا. كل صباح، يصحوان باكيَين من شدة الألم، يقولان لي: أبي، أقدامنا تؤلمنا كثيرًا"

"لا طعام، لا فيتامينات، لا أحد يسأل عنا. كل صباح، يصحوان باكيَين من شدة الألم، يقولان لي: أبي، أقدامنا تؤلمنا كثيرًا" يعلق الأب بحرقة.

في لحظة مؤثرة، حاول عمار، الذي بلغ الخامسة عشرة من عمره الوقوف على قدميه في منتصف غرفة الجلوس. وبصوتٍ خافت يشبه الهمس، لكنه محمّل برجاء لا يمكن تجاهله، قال: "كنت أمشي قليلًا، أستطيع الوقوف في منتصف الصالون، لكن الآن تعبت. نحتاج دواءً وعلاجًا. صحتي قبل الحرب كانت أفضل. أتمنى أن أتحسن، وأن تدخل الأدوية والطعام".

تحب فدوى الرسم، وتحتفظ بدفتر صغير مزين بالقلوب والمنازل الملوّنة، كما لو أنها تحاول أن ترسم العالم كما تتمنّاه لا كما تعيشه.

أما فدوى، ذات الثلاثة عشر عامًا، فما زالت تتمسك بحلم بسيط لكنه بعيد المنال: أن تمشي مجددًا كما بدأت قبل الحرب. كانت تخطو خطواتها الصغيرة بمساعدة والدها، وتضحك كلما تجاوزت عتبة الغرفة، كأنها تنتصر على جسدها الهش في كل مرة.

تحب الرسم، وتحتفظ بدفتر صغير مزين بالقلوب والمنازل الملوّنة، كما لو أنها تحاول أن ترسم العالم كما تتمنّاه لا كما تعيشه. تقول بصوت واهن تتخلله تنهيدة متعبة: "أتمنى أن أعود للمشي، وأن أذهب إلى المدرسة، وألعب مع الفتيات.. تعبت من الوجع."

يحاول والدهما أن يُخفف عنهما بما يستطيع. يوفر لهما القليل من العسل، أو بعض العجوة إن تيسرت. لكن هذه الأطعمة، رغم رمزيتها، لا تكفي أجسادًا تنمو بصعوبة، وتحتاج إلى تغذية دقيقة، ورعاية طبية لا تنقطع.

فقدان المدرسة لم يكن مجرد فقدان للتعليم، بل كان انقطاعًا عن ملاذ نفسي، مكان يمنحهما شعورًا بأنهما ليسا وحيدين في هذا العالم.

لم يعد الطفلان قادرين على الذهاب إلى مدرستهما التي كانت مخصصة للأطفال من ذوي الإعاقة، حيث كانوا يتعلمون، ويضحكون، ويشعرون بأنهم ينتمون. "كانا يتحدثان مع أطفال مثلهم، يضحكان، ويتعلمان، أما اليوم، فصمت تام. لا مدرسة، ولا حياة."

فقدان المدرسة لم يكن مجرد فقدان للتعليم، بل كان انقطاعًا عن ملاذ نفسي، مكان يمنحهما شعورًا بأنهما ليسا وحيدين في هذا العالم.

يزيد الأب: "يسألانني عن أصدقائهما، عن المعلمة، عن الحصة، أما أنا فلا أملك جوابًا."

ورغم ذلك، لا يزال الأب متمسكًا بالأمل، رغم هشاشته: "لدي أمل أن يتحسنا، ويسافرا إلى الخارج، أن يحصلا على العلاج، ويعيشا حياة طبيعية. أريد فقط أن أبقى إلى جانبهما. أتمنى أن تنتهي الحرب، ونبدأ من جديد."

عمار وفدوى لا يطلبان معجزة. فقط يريدان أن ينعما بحقوق إنسانية أساسية: الحق في العلاج، في الغذاء، في التعليم، وفي الحياة. في التقارير الرسمية، قد يكونان رقمًا إضافيًا في قوائم النزوح والدمار، لكن في عيني والديهما، هما الحياة كلها.

كاريكاتـــــير