شبكة نوى، فلسطينيات: خانيونس/ نوى
إنها الثانية بعد منتصف الليل. لم تترك غارات الاحتلال التي استهدفت أكثر من منطقة في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، فرصةً لاختلاس غفوة في منزل عائلة قديح. رغم ذلك، لقد بدأ نهار العائلة للتو.
يهرع يوسف نحو الباب، ويخرج مستودعًا قلب أمه وضحكات الصغار، ثم ينطلق نحو المخبز القريب من المكان الذي نزحت إليه عائلته قادمةً من بلدة خزاعة شرقي المدينة، لعله يلحق بدورٍ متقدمٍ في طابور الانتظار أملًا في الحصول على نصف ربطة!
تشرق شمس الصباح عليه ولا يزال هناك من يسبقه، ثم يأتي دوره، فيأخذ الخبز ويعود به كما لو ربح مليون دولار! "بل هي أثمن من ذلك في اليوم الرابع والثلاثين من إعلان الحرب على قطاع غزة" يقول متهكمًا.
تخبر والدته لـ"نوى": "لم أتخيل أن يأتي علي يومٌ أبحث فيه عن كسرة خبزٍ جافة، أو أصابها العفن، فأمسحها بالماء لأسكت جوع الصغار! نحن الكبار نصوم فتراتٍ طويلة ونصبر، أما الصغار فلا حيلة لنا أمامهم".
يقف يوسف يوميًا ما يقارب ست ساعاتٍ من الانتظار في طابور المخبز المتاح في المنطقة، فيحصل على خبزٍ بالكاد يكفي لوجبةٍ واحدة، بمعدل رغيف لكل فرد من أفراد عائلته!
مشاهد قاسية يمكن رصدها في طوابير المخابز، حيث يصطف المئات في انتظار الفرج! قد تشهد لحظة انكسار أبٍ لم ينم منذ أيام بسبب القصف، يقف خلف دورٍ طويلٍ من الجوعى، فلما يصل يخبره صاحب المخبز بأن الدقيق نفَذ، فيعود إلى منزله يجر أذيال الخيبة والقهر.
ووفق الأمم المتحدة، نزح نحو 1,4 مليون شخص عن منازلهم في غزة، أي أكثر من نصف سكان القطاع. نزحوا باتجاه الجنوب ما فاقم من أزمة الحصول على الاحتياجات الأساسية، وعلى رأسها الخبز والماء.
وتروي ضحى بعلوشة النازحة من منطقة تل الزعتر في جباليا شمالي قطاع غزة إلى رفح جنوبًا، معاناة أسرتها في الحصول على حصة من الخبز هناك في الأيام الأولى من الحرب، فتقول: "المخابز في منطقتنا كلها قصفت، وحتى الطحين الموجود لدينا نفذ. كان زوجي يقطع مسافات طويلة للحصول على بعض الأرغفة كل يوم من المخابز البعيدة، وفي مرةٍ خرج بعد الفجر وانقطعت شبكات الاتصال فجأة. لم يهدأ قلبي إلا لما عاد عصرًا وفي حوزته بعض الأرغفة! كان الموقف مبكيًا، كيف تغير حالنا إلى هذا الحال فأصبحنا نشتهي كسرة الخبز؟! لا يليق بنا الذل والله".
نزحت ضحى وزوجها وأطفالها ووالده ووالدته وجميع شقيقاته وأشقائه إلى رفح، بعد أن اشتدت حدة الضربات شمالًا، وتعمد الاحتلال استهداف أحياء سكنية بأكملها، لا سيما وأن العائلة تلقت العديد من الاتصالات من جيش الاحتلال تطالبهم بالنزوح نحو الجنوب.
تضيف: "حتى في رفح، نعاني للحصول على الاحتياجات الحياتية، فلا ماء، وإن توفرت فلا كهرباء لرفعها، حتى الغذاء لا يمكن إيجاده بسهولة خصوصًا بعد نزوح مئات الآلاف من غزة وشمالها نحو الجنوب".
في رفح، يخرج زوج ضحى المريض بالسكري قبل الفجر، فيصطف في طابور الخبز لساعات طويلة، متعاليًا على مرضه وتعبه، "وهذا دفعني لتقنين حصة أفراد العائلة من الخبز، واختصار الوجبات إلى واحدةٍ في اليوم. لا خيار آخر أمامي" تعلق بغصة.
لا تعرف ضحى ما حل بمنزلها في تل الزعتر، لكنها سمعت في الراديو أن الحي بأكمله دُكّ بالصواريخ على مدار أكثر من يوم. كل ما تفكر به رغم هذا الرعب توفير لقمة الخبز لأبنائها بعدما انقطعت سبل دخول المساعدات والوقود والاحتياجات الأساسية والإنسانية.
في مدينة خان يونس لم يتبقّ سوى مخبزين وحيدين يعملان، بعدما خرجت جميع المخابز عن الخدمة بسبب نفاذ المحروقات والدقيق، وبعضها بسبب القصف المباشر، في حين يحاول بعض المواطنين تدبير احتياجاتهم بطريقةٍ بدائية، فيخبزون ويطبخون على الحطب إن وجدوا الدقيق، الذي بات يبلغ سعر الكيس بوزن 25 كيلوجرامًا منه، ما قيمته 150 شيقلًا!