شبكة نوى، فلسطينيات:
مع اقتراب الحرب الإسرائيلية الشرسة على قطاع غزة من نهاية شهرها الأول، تتسع "دائرة الدم والدمار" على نحو ينذر بكوارث إنسانية، لا يسلم منها "البشر والحجر والشجر"، وكان للصحفيين الفلسطينيين نصيبهم الوافر والمؤلم من "فاتورة" هذه الحرب، فأعداد الضحايا من شهداء وجرحى من تؤشر إلى أن الاحتلال يضعهم في "بؤرة الاستهداف"، وكأنه يريد أن يعاقبهم مرتين: مرة على هويتهم الوطنية، ومرة لكتم أصواتهم وكسر أقلامهم وكاميراتهم..
والهدف هو "اغتيال عيون الحقيقة". لا تريد دولة الاحتلال للضحية أن "تصرخ"، وتريد الاستمرار في ممارسة القتل والتدمير بـ "صمت" ومن دون ضجيج، فكان لابد من إغلاق "نافذة" الضحايا على العالم، ومارست في سبيل ذلك "الاغتيال الممنهج" ضد الصحفيين وعائلاتهم، وتدمير منازلهم ومقارهم ومكاتبهم، وإحكام الخناق عليهم بقطع أو "التشويش" على خدمات الاتصالات والانترنت.
وبحسب التوثيق الأولي لـ "نقابة الصحفيين الفلسطينيين" ومؤسسات إعلامية وحقوقية رسمية وأهلية، فقد استشهد منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، 38 صحفياً، آخرهم الصحفي في تليفزيون فلسطين الرسمي محمد أبو حطب الذي استشهد مع عدد من أفراد أسرته، جراء غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزله في مدينة خان يونس، ومن بين "ضحايا الصحافة" 4 صحفيات، وعشرات الجرحى. وجعلت الحرب الإسرائيلية "المجنونة" التي تستهدف كل شيء على أرض غزة وتحت سمائها،
عمل الصحفيين "مهمة محفوفة بمخاطر جمة" خلال تنقلهم في الميدان، حيث طائرات حربية تحلق على مدار اللحظة وتلقي بالموت حمماً من السماء، وبحسب شهادات حية استقتها "نوى" من صحفيين وصحفيات في غزة، فإنهم يشعرون بأنهم "شهداء" يمشون على الأرض، وقد تنال منهم غارة بصاروخ أو قصف بقذيفة في أي لحظة. أحد هؤلاء هو الصحفي أنس الشريف، الذي نجا من الموت بأعجوبة مرات عدة خلال تغطيته لتطورات الحرب الإسرائيلية في مخيم جباليا ومناطق شمال القطاع، وآخرها نجاته من المجزرة المروعة التي ارتكبتها طائرات حربية إسرائيلية شنت غارات قاتلة ومدمرة على مربع سكني بأكمله في المخيم، وأسفرت عن مئات الشهداء والجرحى.
يقول الشريف لـ "نوى" إنه خرج من مستشفى الأندونيسي لتوفير "بعض الاحتياجات" لزملائه من الصحفيين، الذين يقيمون ليلاً في المستشفى، وكان على بعد أمتار قليلة عندما انهمرت الصواريخ على مربع سكني في المخيم، وحولت عشرات المنازل إلى "قبور" لساكنيها، الذين دفنوا تحت ركام منازلهم. ما بين مخاطر الاستهداف بالميدان والقلق على أسرته الصغيرة يعيش الشريف أياماً عصيبة منذ اندلاع الحرب، التي تحول دون التقائه بطفلته وزوجته الحامل،
ويقول إنه لم يراهما سوى مرتين فقط ولوقت قصير خلال الأسابيع الأربعة الماضية. ومع الأيام الأولى للحرب، كادت غارة جوية إسرائيلية شنتها طائرة حربية داخل مستشفى ناصر الحكومي في مدينة خان يونس أن تنال من مراسل قناة الغد إبراهيم قنن، وزميله حسام الكردي، الذين أصيبا بجروح في أنحاء جسديهما، بشظايا الصاروخ، الذي أصاب مباشرة سيارة إسعاف كانا على مقربة منها. بعد هذه الحادثة، ومع تصاعد وتيرة الغارات الجوية، وبدافع من القلق قرر الكردي جلب أسرته (زوجته وأطفاله الثلاثة) من منزله في مدينة غزة للإقامة معه في المستشفى، إلى جانب آلاف من النازحين الذين لجأوا إلى المستشفى للاحتماء بها، ويقول: "الحياة هنا بائسة بالنسبة لزوجتي وأطفالي، ولكن وجودهم بجانبي يجعلني مطمئناً بشكل أكبر، ويمكنني رؤيتهم وتدبير احتياجاتهم". والكردي كما الكثير من صحفيي وصحفيات غزة الذين يعملون بالميدان، ويقيمون في المستشفيات، للبقاء على متابعة مستمرة للأحداث المتلاحقة والجارية في الميدان، ورغم إصابته وزميله قنن، إلا أنهما لم يبتعدا عن التغطية على الهواء مباشرة، سوى لوقت قصير تلقيا خلاله العناية الطبية السريعة.
وتخوض الصحفية الشابة بلستيا العقاد تجربته الميدانية الأولى في التغطية الميدانية للحرب الإسرائيلية، وهي التي عايشت كل الحروب وجولات التصعيد السابقة على غزة، غير أنها تقول لـ "نوى" إن "هذه الحرب مغايرة تماماً عن كل الحروب السابقة، ولا حصانة فيها لأحد، والكل مستهدف حتى الصحفيات والصحفيين". ونزحت بلستيا وأسرتها من مدينة غزة إلى مدينة خان يونس، وهي دائمة القلق في ظل تكرار جرائم الاستهداف الإسرائيلي لأسر وعائلات الصحفيين داخل منازلها السكنية، وقالت: "ظروف عملنا خطيرة ومعقدة، ويزيدها صعوبة قلقنا الدائم على عائلاتنا". وإلى جانب عملها في تغطية الحرب لصالح وسائل إعلام باللغة الانجليزية، فإن بلستيا واحدة من الصحفيات والصحفيين الشباب الذين لمعت أسماؤهم خلال الحرب على منصات التواصل الاجتماعي، حيث ارتفع عدد متابعيها على منصة "أنستغرام" من بضعة آلاف قبل الحرب إلى أكثر من مليوني متابع حالياً. وتشعر بلستيا بالرضا عن حجم التفاعل مع المقاطع المصورة التي تنشرها على حسابها الشخصي على "أنستغرام" وتوثق قصصاً إنسانية، لتعريف العالم بما يدور على الأرض في غزة، جراء الحرب الإسرائيلية التي خطفت أرواح آلاف النساء والأطفال. لم يكن الاستهداف الجسدي للصحفيين وعائلاتهم هو الجريمة الوحيدة للاحتلال، الذي دمرت غاراته الجوية عشرات المكاتب والمقار الإعلامية لصحف وإذاعات محلية، ومراكز تدريب إعلامية، وصفها نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين تحسين الأسطل بأنها "سياسة إسرائيلية ممنهجة هدفها ترهيب الصحفيين وحجب الحقيقة وارتكاب المجازر والجرائم بعيداً عن عدسات الكاميرا وأقلام الأحرار".
وكرر الأسطل في حديثه لـ "نوى" المحاكم الدولية المختصة بالتحقيق في هذه الجرائم، وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وتوفير الحماية للصحفيين وعائلاتهم ومؤسساتهم الصحفية، واعتبر أن "إفلات قادة الاحتلال من هذه الجرائم هو الذي يشجعه على الإمعان في ارتكاب المزيد منها".
ووضع نائب نقيب الصحفيين ما ترتكبه قوات الاحتلال بحق الصحفيات والصحفيين في غزة في سياق "جرائم حرب"، وقال إن "القانون الدولي وكل القرارات الأممية والمواثيق الدولية تنص على توفير الحماية للصحفيين، واستهدافهم المتعمد هو جريمة حرب تستدعي المحاسبة".