نزوحٌ على الأقدام.. لا مركبات على دُروب "الحرب" بغزة!
تاريخ النشر : 2025-09-28 13:38

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

إنها الثالثة فجرًا. الليل يبتلع كل شيء، ما عدا أنين طفلةٍ صغيرةٍ قطعت على قدميها أكثر من خمسة عشر كيلو مترًا، من بيتها في حي الشيخ رضوان وسط مدينة غزة، إلى تبة النويري غربي مخيم النصيرات وسط القطاع.

فوق الإسفلت البارد تهادت خطوات غزل صيام (8 سنوات) لساعات، تسير وسط الرعب وأصوات الرصاص. في يدها تمسك كيسًا شفافًا بداخله علبتي حليب، وفي الأخرى تقبض على يد والدها الملطخة بالدم، بعد أن اخترقت شظيةٌ إسرائيلية قدمه الملفوفة بشاش أبيض.

"انتظرتُ طويلًا سائقي المركبات لعلّ أحدهم يُخرجنا من الحي، لكن الرد كان بالتأجيل أو الصمت. ومع ازدياد الخطر لم أجد أمامي سوى السير على الأقدام".

تتعثر قدماها الناعمتان، بينما أصوات التفجيرات والروبوتات الإسرائيلية تلاحقها من الخلف.

يحكي والدها الذي بالكاد تمكن من التقاط أنفاسه: "انتظرتُ طويلًا سائقي المركبات لعلّ أحدهم يُخرجنا من الحي، لكن الرد كان بالتأجيل أو الصمت. ومع ازدياد الخطر لم أجد أمامي سوى السير على الأقدام مع زوجتي وأطفالي".

قصة غزل وعائلتها ليست سوى مرآة لمعاناة يومية يعيشها أكثر من مليوني إنسان في غزة، بعدما دمّر الاحتلال المركبات، ومنع إدخال الوقود منذ بدء حرب الإبادة.

على قارعة الطريق، جلس الأب منهكًا يحتضن طفلته التي بدأت تغفو بين ذراعيه، بينما قال: "ليست المرة الأولى التي نضطر فيها للمشي مثل هذه المسافات خلال الإبادة. لقد اضطررنا للنزوح هذه المرة بعد اقتراب الخطر من خيامنا بشكل كبير، لكن معاناتنا مع المواصلات في غزة لا تقتصر على قضية النزوح".

يكمل الأب بحرقة: "حتى ذهابنا إلى السوق معضلة في ظل عدم وجود المواصلات، ونقص الفكة. ننتظر ساعات طويلة سيارة تقلنا فلا نجد سوى التوك توك أو عربات الكارو، رغم خطورتها وعدم صلاحيتها لمسافات بعيدة".

"قبل الحرب كانت السيارة تتسع لأربعة ركاب فقط، اليوم نحمل عشرة دفعة واحدة. هذا أنهك السيارة وأرهقني بتكاليف الزيت والإطارات والبطاريات".

في مواصي خانيونس، يحاول السائق النازح محمد أبو حجر (42 عامًا) تشغيل سيارته القديمة "سكودا" أمام خيمته، بلا جدوى. يتنهد قائلًا: "عملتُ أول ثلاثة أيام من النزوح، لكن السيارة تعطلت بسبب تكسر الطرق والمطبات الرملية وغلاء قطع الغيار، وانعدام الأصلي منها. دفعتُ مبالغ مضاعفة لسحب السيارة إلى خانيونس."

ويضيف: "قبل الحرب كانت السيارة تتسع لأربعة ركاب فقط، اليوم نحمل عشرة دفعة واحدة. هذا أنهك السيارة وأرهقني بتكاليف الزيت والإطارات والبطاريات".

لتر البنزين بمئة شيقل، وزيت المحرك من عشرة شواقل ارتفع سعره لـ400. ما أكسبه بالكاد يغطي العمل، ولا يكفي لإعالة أسرتي".

وتفاقمت أزمة المواصلات بشكل غير مسبوق، لتزيد أوجاع المواطنين والسائقين معًا. "لا ألوم الركاب حين يتأففون، فالوقود لم يعد كما كان. لتر البنزين بمئة شيقل -إن توفر- وعلى التطبيق البنكي يصل إلى 140، وزيت المحرك من عشرة شواقل ارتفع سعره لـ400. ما أكسبه بالكاد يغطي العمل، ولا يكفي لإعالة أسرتي"، يقول أبو حجر.

ويضيف: "عشرون عامًا عملتُ فيها سائقًا، ولم أرَ أيامًا أقسى من هذه الحرب. تضرر الجميع: المواطن الذي يدفع أضعافاً، والسائق الذي يلهث وراء الوقود الممنوع، ويضطر لاستخدام الوقود الصناعي الذي يدمّر السيارات أكثر مما يُشغّلها".

من بين ركام مخيم جباليا، كان عمر أبو وردة (45 عامًا)، يخرج يوميًا قبل الفجر إلى عمله الذي يمتد خمس عشرة ساعة في صناعة الوقود الصناعي، قبل نزوحه الأخير إلى غرب غزة، حيث اضطر إلى التوقف عن العمل.

ويقول: "المهنة ليست جديدة، لكنني لجأت إليها خلال الحرب لتخفيف العبء عن الناس. ما ننتجه لا يكفي حاجة السوق، ويعمل فقط في السيارات القديمة".

"نحضر البلاستيك التالف ونقطعه ثم نضعه في براميل محكمة الإغلاق ونشعل النار أسفلها. يتحول إلى سائل ثم يُبرّد، وبعدها نعيد التكرار لفصل السولار عن البنزين وتعبئته".

وعن طريقة التصنيع يقول: "نحضر البلاستيك التالف ونقطعه ثم نضعه في براميل محكمة الإغلاق ونشعل النار أسفلها. يتحول إلى سائل ثم يُبرّد، وبعدها نعيد التكرار لفصل السولار عن البنزين وتعبئته. الدخان والغبار سامّان، لكننا نحاول حماية أنفسنا بالكمامات والقفازات".

من جهته، يؤكد المتحدث باسم وزارة النقل والمواصلات أنيس عرفات أنّ الحرب دمّرت 70% من المركبات بشكل كلي أو جزئي، وما تبقى أصابه الضرر أيضًا.

وقال: "الحرب فاقمت معاناة المواطنين، خصوصًا مع أوامر الاحتلال بالنزوح جنوبًا. ما كان يستغرق دقائق ويكلّف ستة شواقل، صار يستغرق أكثر من 12 ساعة ويكلف أضعافًا".

"تسعون بالمئة من البنية التحتية دمرها الاحتلال، وما تبقى لا يصلح حتى لسير الحيوانات التي سرقها وصادرها إلى الخارج، مما شلّ حركة النقل".

ويتابع: "تسعون بالمئة من البنية التحتية دمرها الاحتلال، وما تبقى لا يصلح حتى لسير الحيوانات التي سرقها وصادرها إلى الخارج، مما شلّ حركة النقل".

يختم عرفات: "قطاع النقل والمواصلات في غزة مشلول تمامًا منذ بداية الحرب، ونحن نحاول السيطرة قدر المستطاع وسط هذا الدمار الشامل."