غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تتخيل هلا أن يُزفَّ محمد شهيدًا، بدلًا من أن يطل عليها ببدلة الفرح التي رسما تفاصيلها منذ أعلنا خطوبتهما وسط حرب الإبادة، مقتنعَين أن الحب وحده قد يكون المتنفس الأخير بعيدًا عن مشاهد الموت والدمار.
بدأت حكاية الصحفيين هلا عصفور (24 عامًا) ومحمد سلامة (25 عامًا) داخل مجمع ناصر الطبي في خان يونس، المكان الذي ظل شاهدًا على تغطيتهما الصحفية، ثم غدا شاهدًا على رحيل بطل الحكاية.
تتذكر هلا: "تعرفت على محمد في الحرب، كنا نعمل معًا في توثيق القصص الإنسانية ضمن برنامج أصوات من غزة لصالح قناة الجزيرة، كان شابًا طموحًا، خلوقًا، مميزًا في عدسته".
أمام العالم، وثقت عدسات الكاميرات جريمة اغتيال الصحفي العريس محمد سلامة، برفقة ثلة من زملائه الذين كانوا يوثقون الجريمة ذاتها بحق المستشفيات والمدنيين.
في صباح الخامس والعشرين من آب، جلسا يحتسيان النسكافيه في خيمة العمل، يتبادلان الحديث عن الأوضاع الميدانية، فقالت هلا: "طائرة الكواد كابتر لا تغادر المكان يا محمد"، ليجيبها بنبرة استشراف: "شكله حيصير انفجار ضخم".
لم يكمل حديثه حتى قصفت طائرات الاحتلال الطابق الرابع داخل مجمع ناصر الطبي. هرع محمد يحمل كاميرته، ليوثق اللحظة بصدق المهنة، وما لبث أن بدأ التصوير حتى قُصف المكان مجددًا.
وأمام العالم، وثقت عدسات الكاميرات جريمة اغتيال الصحفي العريس محمد سلامة، برفقة ثلة من زملائه الذين كانوا يوثقون الجريمة ذاتها بحق المستشفيات والمدنيين.
تروي هلا، والدموع تنحدر من خديها: "كنا سويًا، هرع محمد للتصوير في الطابق الرابع، وكنت أنا في الطابق الأول، اتصلت به ليأتي إلي، فأخبرني أنه آتٍ.. منذ ذلك الاتصال لم يعد محمد".
ما كان أمامها إلا جثمانه ممددًا، ملفوفًا بالكفن الأبيض، والدماء ما زالت تنزف من جسده. كانت المرة الأولى التي تراه بلا ضحكته المشرقة، بلا عينيه المتوهجتين، بلا حضنه الذي يبدد تعب الطريق. "صحوني بعد ما أغمى عليا.. حكولي محمد في المشرحة قومي ودعيه"، هكذا أخبروها، فكأن السكين غُرزت في قلبها.
لم تستطع تقبل وداعٍ أبديٍ كهذا. أخذت تناجيه أن ينهض، أن يعود للحياة، لكن أمر الله نافذ. تلمست وجهه للمرة الأخيرة، حضنته دون وعي، حتى رفعوه على الأكتاف، شيعوه وهي تحضنه بعينيها وقلبها. لم يبقَ لها سوى ألم الفقد، فهلا التي كانت تجهز نفسها لتكون عروسًا، خطفها صاروخ إسرائيلي من الفرح إلى المقبرة.
"استشهاده لم يكن متوقعًا"، تقول هلا، مشيرة إلى أنهما كانا يستعدان لحفل زفافهما في 31 آب/أغسطس 2025، وقد أجّلاه أكثر من مرة بسبب الحرب. ومع ذلك، لم يكن شيء يوقف الحب حتى في زمن الإبادة. اتخذ محمد وهلا قرار الزواج كخطوة للهروب من القصف والدمار والنزوح والجوع.
تستعيد تفاصيل صغيرة كانت تبهج محمد: "كانت فرحته لا تسعها الدنيا، يطير فرحًا مع كل تفصيلة نتمها في تجهيزات الفرح، لم يكن يريد شيئًا سوى أن يعيش أيامًا جميلة برفقتي". لكن خوف هلا عليه لم يكن يفارقها، تقول: "كنت ألح عليه أن ينتبه على نفسه أثناء العمل، وأذكره دائمًا أنه يملك روحين بجسد واحد، وأي شيء يصيبه يصيبني". وكان محمد يبتسم مرددًا: "أنا يا مرتي ححافظ على حالي عشانك".
اليوم، تتركه الحرب في قلب هلا كفراغ لا يمتلئ، جرح لا يندمل. لم تعد تقوى على رؤية المستشفى، فكل زاوية هناك تذكّرها بلحظة، بضحكة، بظل محمد الذي لن يعود. لكنها رغم الألم، تتمسك بالعهد: "أنا على العهد، سأكمل الدرب الذي تركني محمد في منتصفه، وسأحيي ذكراه في كل مكان".