غزة- بيت لحم/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في قلب قرية الولجة القريبة من بيت لحم، جنوبي القدس، يقف صلاح أبو علي بجوار زيتونة ليست كأي زيتونة، يتلمّس بجوارهـا جذعًا متعرّجًا، يمرر أصابعه كما لو كان يمسح على جسد كائن حي يخصه. يهمس: "منذ طفولتي تربيت بجوارها. كان والدي يصحبني مع خيوط الفجر الأولى ويعلّمني كيف أحرسها وأعتني بها، فهي قطعة من الوطن لا يمكن التفريط بها".
تلك الزيتونة العتيقة، التي ورثها عن أجداده، هي أقدم شجرة زيتون في فلسطين والعالم، شجرة يبلغ عمرها نحو خمسة آلاف وخمسمئة عام، جذورها ضاربة في الأرض كأنها تمتد إلى ذاكرة التاريخ، وقطرها خمسة وعشرون مترًا، فيما يغطي ظلها مساحة 250 مترًا، وتنتصب بارتفاع أربعة عشر مترًا.. شامخةً، تُنتج ما يقارب ستمئة كيلوغرام من الزيتون كل عام.

قبل عشرين عامًا، حين انتَخبت العائلة صلاح ليكون حارسًا جديدًا لها، باركه نحو خمسمئة فرد من آل أبو علي. أوصوه ألا يقصّر في رعايتها، وأن يصونها كما صانها أبوه وجده من قبل. منذ ذلك الحين، لم يتوانَ المزارع الخمسيني عن أداء العهد، ساهرًا على حمايتها، عاكفًا على خدمة جذورها وأغصانها حتى اليوم.
يقول أبو علي بنبرة ملؤها الفخر: "إن هذه الشجرة هي "أم الزيتون" في فلسطين، ولها ألقابٌ كثيرة، من بينها "الحصن" و"الختيارة" و"عروس فلسطين"، وألقاب كثيرة ما زالت عاجزة عن أن تفيها حقها. رحلت أمم وبقيت هي، خضراء، مترعرعة، وصامدة في وجه المحتلين".

ولم تكن زيتونة "الولجة" مجرد شجرة، بل مقامًا ومزارًا على مر القرون، ارتبطت بأساطير وحكايات شعبية، اتخذها رجال الدين المتصوفة مقامًا لهم، وعلى رأسهم الشيخ أحمد البدوي الذي كُنيت باسمه. تحت أغصانها أقامت جماعة الدراويش شعائرها وولائمها، وما تزال تستقطب زوّارًا من شتى بقاع العالم.
يجلس صلاح أحيانًا على أحد أغصانها المتينة، يحتضنها كأنها قريبة أو أم، يحدّثها عن مواسم الحصاد التي تبدأ من أكتوبر حتى ديسمبر، وعن زيت الزيتون الذي يخرج من قلبها فيغدو بترول الفلسطينيين الأخضر، يضيء موائدهم الشعبية بالمسخن والقدرة والمناقيش.

غير أنّ الشجرة العتيقة لا تنجو من تحديات كثيرة، أبرزها تقلب المناخ وشحّ المياه. يقول صلاح إنه يسعى جاهدًا إلى شراء المياه وتسميد التربة، حتى تبقى قادرة على العطاء وتمنح الفلسطينيين ألذ زيت زيتون في العالم. لكنّ التهديد الأخطر يبقى الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ تقع على بعد 150 مترًا فقط من جدار الفصل العنصري الذي ابتلع كثيرًا من أراضي قرية الولجة، القرية التي تعد من أقدم قرى فلسطين، بخصوبة أراضيها وينابيعها وعيون مائها.
بينما يروي الحارس قصته مع الشجرة، يبدو أن العلاقة لم تعد مجرد وراثة أرض أو زيتونة، بل وصية أزلية يحرص على أن يسلّمها لأبنائه وأحفاده: "حب هذه الشجرة توارثته الأجيال، وسأورثه لهم. فهي رمز للصمود الفلسطيني الباقي في وجه الاحتلال".

يختم رسالته بنداء صريح: "شجرة الزيتون أمانة في أعناقنا جميعًا. علينا أن نحافظ عليها، نزورها، نلتقط الصور معها، فهي تاريخنا وحضارتنا وهويتنا الفلسطينية".
في أرضٍ تمزقها الحروب والاقتلاع والتهجير، تبقى زيتونة الولجة شاهدة على جذر الفلسطيني الذي لا يُنتزع، حارسًا صامتًا يروي بحضوره حكاية شعبٍ آمن بأن بقاءه في الأرض شبيه ببقاء هذه الشجرة، ممتدًا حتى آخر رمق.
