حرب "الروائح".. التي أفسدت "ربيع" غزة!
تاريخ النشر : 2025-07-23 02:12

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"لم تكن ياسمينتي مجرّد نبتة خضراء على حافة سطح البيت، بل كانت مرآة الحياة في بيتنا، ذاكرة حيّة نكبر معها، نحسب مواسمها كما نحسب أعمارنا، ونرعاها كأنها الطفل الأصغر مدللًا ومحاطًا بالعناية. لم تكن تُسقى إلا بماءٍ عذب، تُقلم كل خريف، وتظل أزهارها مقصدًا للفراشات كل صباح، وملاذًا آمنًا للنحل الباحث عن عبير، لكن كل ذلك تغيّر في لحظة واحدة".

"كانت ياسمينتي مكسورة، صامتة، غابت رائحتها، وحل مكانها رماد الحرب.. بارودٌ وغبارٌ وصمتٌ كثيف. كانت أول ما فقدناه، وأقرب ما شعرت أنه يشبهنا".

تنهّدت مرح صلاح طويلًا، وتابعت بحرقة: "قصف الاحتلال منزل جيراننا الملاصق، ارتجّ البيت، تحطّم الزجاج، تشقّق السقف وسقط ركننا الأجمل.. ركضتُ إلى السطح، لم أبحث عن شيء بقدر ما أردت أن أطمئن عليها، لكنها لم تكن بخير".

وصمتت قليلًا قبل أن تتابع، والدمع يملأ عينيها: "كانت ياسمينتي مكسورة، صامتة، غابت رائحتها، وحل مكانها رماد الحرب.. بارودٌ وغبارٌ وصمتٌ كثيف. كانت أول ما فقدناه، وأقرب ما شعرت أنه يشبهنا".

وفي شمالي غزة، بعيدًا عن رائحة الياسمين، يسترجع الحاج أبو عادل أبو حليمة مشهد بيته الذي كان يومًا قطعة من الجنة، وسط أربع دونمات مزروعة بالحمضيات واللوز والزيتون، تحيط به نخلات شاهقة كمنارات ترحّب بالضيوف وتبشّر بالكرم الفلسطيني الأصيل.

"كان بيتي يشبه الجنة"، قالها أبو عادل وهو يغمض عينيه، كمن يهرب من واقعه إلى ذاكرته، "لكن الحرب بدّلت كل شيء، فبدل أن أستيقظ على رائحة البرتقال، أصحو الآن ضجِرًا على رائحة مكبّ نفايات مخيم النزوح المجاور".

"كانت رائحة القهوة تنفذ من شبابيك البيوت كلها، أما الآن، فلا رائحة تصلنا إلا رائحة الصرف الصحي وبارود القصف وقذارة محتكري السيولة! لا قهوة ولا نسمة ترطّب حرّ الخيمة".

أما حلا عيد، فكانت تبدأ صباحاتها بفنجان قهوة بطقوس خاصة. "مع بدء غليان القهوة، تتسلل رائحة منعشة تداعب خلايا القلب والعقل، كنت أذوب شوقًا لفنجاني اللذيذ"، تحكي، مردفةً بأسى: "كانت رائحة القهوة تنفذ من شبابيك البيوت كلها، أما الآن، فلا رائحة تصلنا إلا رائحة الصرف الصحي وبارود القصف وقذارة محتكري السيولة! لا قهوة ولا نسمة ترطّب حرّ الخيمة".

الرائحة لم تكن مجرد تفاصيل في مشهد الصباح الغزّي، بل امتدت لتسكن ذاكرة الفقد والموت. ففي مستشفى ناصر بخان يونس، وقفت الطفلة تالا البنا، (15 عامًا) أمام المشرحة، بقميصٍ ملطّخ بالدم وعيونٍ جفّ دمعها، تودّع والدها الذي استشهد لتوه.

"لطالما كان لوالدي رائحته الخاصة. ليست عطرًا فاخرًا، بل رائحة بشرية تمنحني الأمان"، همست. "في كل مرة يعود، كنت أعوّض غيابه بعناق طويل، لكن عناقي الأخير له كان مختلفًا. لم أجد رائحته. كانت رائحة الدم المتجلط والأنسجة المحروقة والبرودة المنبعثة من الثلاجات فقط.. حضنته طويلًا، بحثتُ عن دفءٍ ما، لكن دون جدوى".

وفي مركز إيواء شرقي المحافظة الوسطى، تروي داليا الدريملي تفاصيل صادمة: "كل شيء حولي تحول فجأة إلى غيمة دخان أبيض، شعرتُ أن أحشائي ستخرج من فمي، لم أعد قادرة على التنفس، لم يكن هناك صوت انفجار أو رائحة بارود، لم نفهم ما الذي حدث، وفجأة سقطت مغشيًا عليّ".

"لا أعرف كيف أو متى استعدت وعيي، لكنني أعرف شيئًا واحدًا: فقدتُ طفلي بسبب استنشاق غاز القصف السام.. لم تكن له رائحة مميزة، لكنه حتمًا كان برائحة الموت".

داليا كانت في شهرها الرابع من الحمل. تكمل: "لا أعرف كيف أو متى استعدت وعيي، لكنني أعرف شيئًا واحدًا: فقدتُ طفلي بسبب استنشاق غاز القصف السام.. لم تكن له رائحة مميزة، لكنه حتمًا كان برائحة الموت".

الرائحة التي غابت عن وعي الضحايا، لا تغيب عن الذاكرة. وتشرح الدكتورة مي عطية، الأخصائية النفسية، هذه العلاقة فتقول: "حاسة الشم ترتبط مباشرة بمنطقة اللوزة الدماغية، المسؤولة عن تخزين المشاعر في الذاكرة طويلة المدى، ولذلك تبقى الروائح محفّزًا دائمًا للذكريات حتى بعد وقت طويل".

وتضيف: "رائحة البارود، والدم، وخيام النزوح، كلها محفزات عصبية تؤثر على فسيولوجيا الإنسان، وتُظهر آثارها في زيادة ضربات القلب، والتعرق، والغثيان، أو حتى على شكل اضطرابات نفسية مثل فقدان الأمان، وتُصنّف ضمن اضطراب ما بعد الصدمة".

"يتعرض سكان غزة لصدمات متتالية، وحتى بعد العلاج، فإن التعرض لرائحة مشابهة كفيل بإعادة المصاب إلى نقطة الصفر، وهذا النوع من الصدمات قابل للانتقال جينيًا إلى الأجيال القادمة".

وتمضي قائلة: "غزة الآن في مرحلة اضطرابٍ مركّب، يتعرض سكانها لعدة صدمات متتالية. حتى بعد العلاج، فإن التعرض لرائحة مشابهة كفيل بإعادة المصاب إلى نقطة الصفر، وهذا النوع من الصدمات قابل للانتقال جينيًا إلى الأجيال القادمة".

لكن وسط كل هذا الرماد، لا تزال هناك براعم تصر على الحياة. مرح صلاح، صاحبة الياسمينة، لا تزال تحافظ على طقسها الصباحي: كوب شاي بلا سكر مع والدتها، تكسر مرارته بنكهة الذاكرة، بعد أن نجحت في إنقاذ بعض الأغصان الصغيرة من ياسمينتها، وأعادت زراعتها في ذات المكان. تبتسم وتقول: "لقد برعمت دالية أم سعد.. برعمت ياسمينتي".