الضفة الغربية/ شبكة نوى- فلسطينيات:
حين تنفتح البوابة الحديدية الثقيلة في "جبارة"، يبدأ حسن دهشان (65 عامًا) رحلته نحو "العذاب". من قرية "كفر صور" جنوبي طولكرم، شمالي غرب الضفة الغربية، يخرج كل يومين ليصل إلى المستشفى الحكومي، حيث يُجري جلسة "غسيل كلى" يخشى -وفق تعبيره- أن تكون يومًا "سبب هلاكه".
بوابة واحدة تفصل بينه وبين المدينة، لكنها تفصله أيضًا عن "حقه في العلاج بكرامة". المشي بين البوابة والمركبة التي تنتظره في الجهة الأخرى لم يعد مجرد عبور، بل امتحانٌ يتكرر، ويزداد ثقله على جسدٍ أنهكته أمراض القلب والسكري والضغط، وعملية قلبٍ مفتوحٍ أجراها قبل مدّة، يحمل آثارها حتى اللحظة في خطواته.
"أصعب اللحظات، هي تلك التي أضطر فيها للانحناء من تحت البوابة للمرور. ساعتها لا أقدر على المواصلة".
"السير إلى العلاج، أصعب من العلاج ذاته. في كثير من الأوقات أشعر بالدوار"، يخبرنا بصوتٍ متعب، ويتابع: "أصعب اللحظات، هي تلك التي أضطر فيها للانحناء من تحت البوابة للمرور. ساعتها لا أقدر على المواصلة".
تلك اللحظة التي ينحني فيها تحت الحديد البارد تصيبه بانكسارٍ مزدوج: انكسارٌ في الجسد، وانكسارٌ في القلب والكرامة".
المواعيد غير المنتظمة للجلسات تُثقله أكثر، إذ يُجبر أحيانًا على الذهاب في الليل، مخاطِرًا بكل شيء، لأنه لا يملك خيارًا آخر. ووسط هذا كله، هناك تكلفة مادية عالية تُثقل كاهله، لا تُحسب ضمن وصفة العلاج، لكنها تترك أثرًا أعمق من وخزة الإبرة في ذراعه.
كل ما يريده حسن هو أن يصل إلى سرير غسيل الكلى دون أن ينهار في الطريق، أن تُفتح له بوابة لا تضطره للانحناء كل مرة.. كأنه يتوسل الحياة.
كل ما يريده حسن هو أن يصل إلى سرير غسيل الكلى دون أن ينهار في الطريق، أن يُعامل كإنسان قبل أن يُعامل كمريض، أن تُفتح له بوابة لا تضطره للانحناء كل مرة.. كأنه يتوسل الحياة.
وتضع الأزمة الصحية في محافظات شمالي الضفة وزارة الصحة الفلسطينية أمام تحدي "الجهوزية". حسن ليس وحده في هذا الامتحان، فخلف بوابة "جبارة"، وفي معظم بلدات وقرى الشمال المحاصر بالمخاوف ونقص الإمكانيات، قصصٌ لا تقلّ وجعًا لمرضى وجرحى ومسنين يعيشون على حافة الانهيار الجسدي والنفسي، وسط مشهدٍ صحي هش.
وتقدر منظمة الصحة العالمية في بيان نشرته في الرابع عشر من حزيران/ يونيو الفائت، تزايد الأزمة الصحية في الضفة، "فمنذ بدء الحرب على قطاع غزة استشهد نحو ألف فلسطيني، نصفهم تقريبًا من جنين وطولكرم، وأصيب الآلاف، وهو ما أثقل كاهل المرافق الصحية".
بحسب قانون الصحة العامة، يقع على عاتق وزارة الصحة تقديم الخدمات الصحية الحكومية الوقائية والتشخيصية والعلاجية والتأهيلية، وإنشاء المؤسسات الصحية اللازمة لذلك.
ووثَّقت المنظمةُ 480 هجومًا على مرافق الرعاية الصحية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر2023 حتى نشر البيان، يضاف لها في التحديثات 54 اعتداء في الفترة الممتدة ما بين بداية 2025 وحتى منتصف آذار/مارس الفائت.
وبحسب قانون الصحة العامة، يقع على عاتق وزارة الصحة تقديم الخدمات الصحية الحكومية الوقائية والتشخيصية والعلاجية والتأهيلية، وإنشاء المؤسسات الصحية اللازمة لذلك. وهذا ما يحدو للتساؤل عن جهوزيتها الفعلية في أوقات الطوارئ، بناءً على الواقع الذي يصفه مواطنون بـ"المأزوم" في مناطق التماس! من الذي يتحمل مسؤولية تعثّر الوصول الآمن للمرضى؟ ولماذا تُركت مرافق الشمال تنوء بأثقالها رغم تحذيرات المنظمات الدولية؟ هذه الأسئلة وغيرها، تجدون إجابتها في سياق التحقيق التالي:
**من جنين إلى نابلس
في اليوم السادس للاجتياح الذي نفّذته قوات الاحتلال الإسرائيلية لمدينة ومخيم جنين، ومخيمات طولكرم، ونور شمس، والفارعة، في آب/أغسطس الماضي، وضمن ما عُرِف بعملية "مخيمات صيفية"، قُطعت الكهرباء عن مستشفى جنين الحكومي لساعات، فاضطر عشرات المرضى إلى التوجه لمستشفيات خارج المدينة؛ لإجراء عمليات غسيل الكلى.
أقرب هذه المستشفيات كان في مدينة نابلس، وهو ما كلّف المرضى وعائلاتهم مزيدًا من الوقت والمال، إلى جانب المخاطرة بالخروج من المدينة التي تحاصرها القوات الإسرائيلية والعودة إليها.
وعلى مدار أكثر من 150 اجتياحًا، بعضها لساعات أو أيام، وأطولها متواصل منذ شهر كانون الثاني/يناير 2025م، لم يكن انقطاع الكهرباء المعضلة الوحيدة، بل الوصول إلى المستشفى الذي كان محفوفًا بالمخاطر؛ مع استمرار حصار القوات الإسرائيلية للمركز الطبي الحيوي في المحافظة.
يوسف محاجنة أحد هؤلاء المرضى، وقد خاطر مع عائلته للوصول إلى المستشفى، فقد خضع لعملية قلب مفتوح في تموز/يوليو 2023م، ويحتاج لمراجعة دائمة.
"أعرّض حياتي وحياة أبنائي في كل مرة للمخاطرة مع التواجد العسكري حول المستشفى، وإطلاق جنود الاحتلال النار حتى على مركبات الإسعاف".
يسكن محاجنة في حي "الصوحة" القريب من المستشفى، إلا أنه يحتاج إلى رحلة آمنة للوصول إليه. ويقول "أعرّض حياتي وحياة أبنائي في كل مرة للمخاطرة مع التواجد العسكري حول المستشفى، وإطلاق جنود الاحتلال النار حتى على مركبات الإسعاف".
بعد ثلاثة أشهر وسّع الاحتلال دائرة الاستهداف، وكان بيت محاجنة من المنازل التي تعرضت للاستهداف، وأصبح الخروج منه وإليه صعبًا وهو ما عقّد عملية وصوله إلى المستشفى أيضًا.
يظن الرجل المريض، أن هذه الحالة متكررة في مدينته منذ بدء الحرب على قطاع غزة، وحتى قبلها؛ فقد بدأت الاجتياحات الإسرائيلية هنا مبكرًا، أطولها قبل الحرب، واستمرت لثلاثة أيام في تموز/يوليو 2023م، وأيضًا حينها كان المستشفى الحكومي الوحيد أحد الأهداف الرئيسة.
"لماذا لا يوجد مستشفى ثانٍ في جنين خارج حدود المدينة والمخيم يمكن الوصول إليه في وقت الطوارئ؟".
ويتساءل: "لماذا لا يوجد مستشفى ثانٍ في جنين خارج حدود المدينة والمخيم يمكن الوصول إليه في وقت الطوارئ؟". وهذا مطلب مئات المرضى من المحافظة التي يخدمها مستشفى حكومي واحد مع 3 مستشفيات خاصة، ثلاثة منها تقع في أكثر المناطق المستهدفة بالعمليات العسكرية، وهو ما يعرض أكثر من 360 ألف نسمة -عدد سكان المحافظة- للمخاطرة؛ من أجل الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية.
**مناطق أخرى
في محافظة طولكرم شمال غربي الضفة، التي واجهت الاجتياحات المتكررة أيضًا، لم يكن الحال أفضل. مستشفى "ثابت ثابت" هو المستشفى الحكومي الوحيد ويخدم سكان المحافظة البالغ عددهم 210 آلاف، أصبح الوصول إليه وخاصة لأصحاب الأمراض المزمنة من غسيل كلى وأمراض القلب في بعض الأوقات شبه مستحيل.
مستشفى "ثابت ثابت" هو المستشفى الحكومي الوحيد بطورلكرم، ويخدم سكان المحافظة البالغ عددهم 210 آلاف.. أصبح الوصول إليه في بعض الأوقات شبه مستحيل!
بلدات "الكفريات" جنوبي المحافظة، تعتمد أيضًا بشكل كلي على الخدمات الصحية المقدمة من هذا المستشفى، في حين يضطر مرضى الكلى إلى العبور مشيًا وزحفًا من تحت بوابة حديدية تفصلهم عن المدينة. وفي تدخلٍ من وزارة الصحة، تم تحويل علاجهم في بعض الأيام إلى مستشفى "قلقيلية" الحكومي. بعضهم كان يصل ليكتشف عدم توفر أماكن شاغرة!
وحديث ضعف الجهوزية لا يقتصر على المناطق الأكثر تعرضًا للعمليات العسكرية الإسرائيلية، التي تركزت خلال العامين الأخيرين في شمالي الضفة، بل تمتد ضرورتها إلى المناطق الأكثر عرضة لاعتداءات المستوطنين.
جنوب الضفة الغربية، ورغم أنه لا يتعرض لعمليات عسكرية، إلا أن الواقع الصحي الحالي لا يبشر بجهوزية في الحالات العادية، فما بالكم ونحن نتحدث عن احتمالية "طوارئ"؟
على سبيل المثال، في مناطق جنوبي الضفة الغربية، ورغم أنها لا تتعرض إلى عمليات عسكرية، إلا أن الواقع الصحي الحالي لا يبشر بجهوزية في الحالات العادية، فما بالكم ونحن نتحدث عن احتمالية "طوارئ"؟
أقرب مثال: مدينة "دورا" في محافظة الخليل، المكونة من 11 قرية، ويقدّر عدد سكانها بـ 30 ألفًا تخلو من وجود مركز صحي أو نقطة طوارئ تخدم المنطقة.
مثالٌ آخر: قرى جنوبي نابلس، التي يزيد عدد سكانها على 150 ألف فلسطيني، وخاصة بعد عزلها عن امتدادها الطبيعي باتجاه مدينة رام الله أو مدينة نابلس، بالحواجز العسكرية، كانت على مدار سنوات مسرحًا لاعتداءات المستوطنين. رغم ذلك تعاني من نقص المراكز الصحية وسط مطالبات الأهالي بتأمين مستشفى يوطّن الخدمة الصحية في المنطقة منذ سنوات.
وبدأت جهود الأهالي لتأسيس مستشفى، لكن هذه الجهود لم تكتمل، في حين زادت اعتداءات المستوطنين، ووصلت ذروتها في الهجوم الكبير على بلدتي حوارة وبورين في شباط/فبراير 2023م، بعد إحراق العشرات من المحال التجارية والمنازل، وإغلاق الحاجز، وتعطيل وصول مركبات الإسعاف.
هذه المنطقة كان لها نصيبها أيضًا مع التطورات، عقب بدء حرب الإبادة في قطاع غزة، إذ أغلقت بحواجز وبوابات عسكرية قطعتها عن امتدادها مع المدينة حيث المستشفيات والمراكز الصحية الأساسية، التي يعتمد عليها المواطنون، مما جعل مطلب تأسيس مستشفى أكثر إلحاحًا.
طلب الطبيب من العائلة تأمين نقل محارب للمستشفى في المدينة بشكل عاجل؛ لخطورة وضعه الصحي، ولكن العاجل استمر لساعتين حتى تمكنت مركبة الإسعاف من الوصول إليه.
عادت هذه المطالبات إلى الواجهة في كانون ثاني/يناير الماضي، بعد تعرض المواطن عصام محارب لذبحة صدرية خلال تواجده في بيته، ومحاولة عائلته بشتى الطرق إدخال طبيب إلى مسكنها في المنطقة الشمالية من بلدة حوارة، التي تقع بالقرب من البوابة العسكرية التي أنشأتها القوات الإسرائيلية على دوار سليمان الفارسي.
طلب الطبيب من العائلة تأمين نقل محارب للمستشفى في المدينة بشكل عاجل؛ لخطورة وضعه الصحي، ولكن العاجل استمر لساعتين حتى تمكنت مركبة الإسعاف من الوصول إليه.
أصدرت بلدية حوارة والقرى المحيطة بها، بعد ذلك بيانًا ملخصه: "منطقة جنوبي نابلس، التي تضم ما يقارب 150 ألف نسمة، تعاني شحًا في الخدمات الصحية، في ظل ظروفٍ إنسانية صعبة".
طالبت البلدية في بيانها وزارة الصحة الفلسطينية، والمؤسسات الإنسانية والحقوقية بتحمل مسؤولياتها، مُذكّرةً بمركز طوارئ حوارة، الذي بُني بجهود أبناء البلدة بتكلفة تجاوزت 8 ملايين دينار أردني، ولم تقم الوزارة بتشغيله حتى اللحظة.
**بتبرعات الأهالي
ليس فقط مركز طوارئ حوارة، ففي العام 2017، بدأ بناء مستشفى على أرضٍ تبرع بها أهالي قرية مجدل بني فاضل جنوبي نابلس، في موقع يتوسط محافظات أريحا ونابلس ورام الله، وقد انتهى بناؤه بالكامل في بداية العام 2023. تكوّن المستشفى من ثلاثة طوابق، وضمّ عدة أقسام، منها: غرف عمليات، وغسيل كلى، وولادة، واحتوى عددًا من الأجهزة الرئيسة.
بعد اكتمال البناء، توجّه أهالي القرية مرارًا إلى وزارة الصحة مطالبين بتشغيله، وقد صدر قرار رئاسي بذلك، وآخر من مجلس الوزراء، إلا أن الرد كان دائمًا بعدم وجود موازنة لتعيين كادر طبي.
يقول رئيس مجلس قروي مجدل بني فاضل، رامي نصّار: "تلقّينا وعودًا كبيرة لتشغيله، لكنها كلها تبخّرت بحجج عدم توفر الموازنات. وحتى مطالبنا بتشغيله بالحد الأدنى، على الأقل أقسام الطوارئ والولادة، لم يتم النظر فيها".
وتابع نصّار: "الأهالي عرضوا على وزارة الصحة أيضًا استكمال ما ينقص المستشفى من أجهزة ومستلزمات عبر متبرعين من الأهالي ومؤسسات أخرى، إلا أن التدخّل الوحيد من قبل الوزارة اقتصر على تشغيل عيادات ليومين في الأسبوع، يتواجد فيها أطباء خلال النهار، دون وجود مختبر أو جهاز أشعة".
ما يثير التساؤل أكثر حول عدم تشغيل هذه المستشفيات، هو النقص في عدد المستشفيات في الضفة الغربية مقارنة بعدد السكان، إذ يبلغ عدد مستشفيات وزارة الصحة هناك، بما فيها مستشفيات الأمراض العقلية، 18 مستشفى، بحسب التقرير الصحي السنوي "فلسطين 2023م"، وهو ما يعني ارتفاعًا بمقدار ستة مستشفيات خلال عشر سنوات.
ووفق التقرير الصحي السنوي "فلسطين 2013"م، بلغ عدد المستشفيات الحكومية التابعة لوزارة الصحة 12 مستشفى فقط، بينما ارتفع عدد الأسرّة من 1478 إلى 1948. إلا أن التقرير ذاته يُظهر أيضًا أن بعض المستشفيات الجديدة، لا تزال لا تستقبل المرضى. وهذه الأعداد، رغم ارتفاعها، لا تزال غير كافية لتلبية حاجة الفلسطينيين في الضفة الغربية، التي اقترب عدد سكانها من ثلاثة ملايين ونصف نسمة.
مدير عام الإدارة العامة للطوارئ، ورئيس إدارة الأزمات الصحية في وزارة الصحة، د. مصطفى القواسمي، أقرّ بالفعل بوجود نقص كبير في المستشفيات وعدد الأسرّة، وأرجع الأمر إلى عدم وجود الموازنات التطويرية، "حيث تتركز الميزانية على التكاليف التشغيلية والرواتب". وقال: "هناك مخططات لبناء مستشفيات جديدة، لكنها بحاجة إلى ميزانيات".
ولكن ماذا عن المستشفيات التي تم بناؤها وتجهيزها بالكامل على حساب المجتمعات المحلية، ولم يتم تشغيلها من قبل وزارة الصحة؟ وهي أربعة: مستشفى سلواد شرقي رام الله، وعمر القاسم في بلدة عزون شرقي قلقيلية، وفي جنوبي نابلس مستشفى "ابن سينا" في حوارة، و"أم حسن" في مجدل بني فاضل.
يُجيب القواسمي: "لدى الوزارة، وبسبب الأزمة المالية أيضًا، إشكالية في توظيف كوادر طبية لهذه المستشفيات وتأمين الميزانيات التشغيلية لها".
وخلال الاجتياحات الأخيرة أيضًا، برزت مطالبات من أهالي مدينتي جنين وطولكرم لبناء مستشفيات ميدانية تُسهّل وصول المرضى للعلاج. لكن القواسمي لا يرى إمكانية تنفيذ ذلك عمليًا، "فالمستشفيات الميدانية تُبنى في مناطق آمنة ويمكن الوصول إليها، وتكون ثابتة لمدة 3 أشهر على الأقل، ولكن في حالتي جنين وطولكرم، فإن الوصول إلى مستشفيات المدن القريبة يكون أسهل" يضيف.
ويكمل: "نلجأ للمستشفيات الميدانية في حال تدمير المستشفيات الرئيسة أو إغلاق الطرق دون وجود بدائل، وتحضيرًا لهذا السيناريو تعمل الوزارة على توفير مستشفى طوارئ متنقل ليتم تفعيله في حالات الطوارئ القصوى".
وتلجأ الوزارة لسدّ النقص الموجود حاليًا في عدد الأسرّة بالمستشفيات الحكومية إلى الاعتماد على القطاع الخاص لشراء الخدمات منه، وهو ما يُحمّل الوزارة أعباءً تضاف إلى فاتورة المديونية، التي تصل –بحسب وكيل وزارة الصحة– إلى 3 مليارات شيكل، أي (حوالي 830 مليون دولار)، وهي مديونية تراكمية على مدار 8 سنوات، الجزء الأكبر منها للمستشفيات الخاصة والأهلية.
ولا يقتصر الأمر على عدم جهوزية مستشفيات وزارة الصحة وقلة عددها، فالمرافق الداخلية للمستشفيات الموجودة بحاجة إلى تطوير، بالإضافة إلى المستلزمات الطبية التشغيلية التي تسجل أحيانًا عجزًا كبيرًا.
** عجز في الأدوية ومديونية
واقع هذه التجهيزات والاحتياجات التي رصدها التحقيق، لا تتعارض فقط مع ضرورة وجود جاهزية أعلى في ظل حالة الطوارئ الحالية، واستمرار الحرب على القطاع، الذي كانت المراكز والطواقم الصحية فيه الجهاز الأكثر أولوية وحيوية في مواجهة الإبادة، بل إنها تتعارض مع أهداف وزارة الصحة الاستراتيجية، المنشورة عام 2023م، ومنها: "تعزيز التخطيط والإدارة والتمويل المستدام للاستخدام الأمثل للإمكانيات المتاحة، وضمان الحصول على خدمات صحية ذات نوعية جيدة من قبل الجميع".
ويقول المدير التنفيذي لمركز "بيسان" للبحوث والإنماء، أُبيّ العابودي: "من خلال رصدنا، يمكن القول إنه لا جهوزية لوزارة الصحة حاليًا أو في حال استمرار الهجوم العسكري على ما هو عليه، أو حتى في حال توسعته إلى مناطق أخرى".
وتابع: "بالحديث عن الأساسيات، وهي الأدوية للأمراض المزمنة، رصدنا نقصًا في معظم مراكز الصحة، إلى جانب مديونية وزارة الصحة للقطاع الخاص، وعدم قدرتها على صيانة الأجهزة وتحسين المستشفيات وتطويرها، وهو ما يُستعاض عنه بالتحويلات إلى المستشفيات الخاصة، وبالتالي زيادة المديونية التي أدّت في بعض مورّدي الخدمة إلى وقفها".
وفي دراسة للمركز، أجرى باحثون مقابلات مع (74) من مرضى السرطان بشكل مباشر، و(122) مشاركًا آخر عبر استطلاع إلكتروني، أظهرت نتائجها أن (29%) منهم لديهم صعوبة في الحصول على أدويتهم؛ لعدم توفرها في مخازن وزارة الصحة.
ندى، المكناة (أم إلياس)، من بلدة بيرزيت في محافظة رام الله والبيرة، لا تعاني من مرض السرطان، ولكنها تعرضت لجلطة قلبية قبل خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين عليها تناول مجموعة من الأدوية الأساسية التي تصرفها وزارة الصحة، "لكن منذ بدء الحرب في قطاع غزة، بات توفر هذه الأدوية متذبذبًا، حتى وصلت إلى شرائها جميعها على نفقتي الخاصة" تقول لـ"نوى".
وشراء الأدوية، التي تتراوح تكلفتها بين 300 و350 شيكل (أكثر من 100 دولار) شهريًا، يشكّل عبئًا إضافيًا على أم إلياس في ظل عجز زوجها عن العمل وتعطّله بالكامل منذ السابع من أكتوبر 2023م، وهو ما جعلها تعتمد على "أهل الخير" لتوفير ثمنها. تضيف: "في السابق كان ينقص نوع أو اثنان من الأدوية في العيادة، ولكن على مدار أربعة أشهر ماضية، أصبحت معظم الأدوية غير متوفرة".
بحسب وزارة الصحة، فإن 700 صنف من الأدوية والمستلزمات الطبية ينقص مخازنها، بعضها أساسي.
وزارة الصحة لا تنفي هذا العجز. على العكس، ففي أكثر من تصريح لمسؤولين فيها يتم التطرّق إلى هذه القضية، مع الردّ الدائم بالمديونية العالية للموردين نتيجة عجز ميزانية الوزارة. وبحسب الوزارة، فإن 700 صنف دواء ومستلزم طبي ينقص مخازنها، بعضها أساسي.
** نقص غير مُبَرر
ولا يرى أبيّ العابودي في هذا إعفاءً للوزارة من مسؤولياتها، ويقول: "بالدرجة الأولى هي مسؤولية الحكومة، وعليها تحديد أولوياتها، فلا يُعقل أن تُصرف 21% من الميزانية على قطاع واحد، بينما تُترك القطاعات الأهم بلا أي تدخلات".
وأضاف في حديث خاص بـ"نوى": "الجهوزية تحتاج إلى خطط وتخصيص موارد أيضًا".
الأُسر الفلسطينية تدفع ثُلث دخلها ضرائب للحكومة، في حين تُعدّ مساهمتها في الخدمات الصحية المقدّمة لها مرتفعة مقارنةً بالدول الأخرى.
وبحسب دراسة سابقة أجراها المركز الذي يديره ("بيسان" للبحوث والإنماء)، ومؤسسات أخرى، فإن الأُسر الفلسطينية تدفع ثُلث دخلها ضرائب للحكومة، في حين تُعدّ مساهمتها في الخدمات الصحية المقدّمة لها مرتفعة مقارنةً بالدول الأخرى.
يُوافق الباحث في مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، إياد الرياحي، ما ذهب إليه العابودي، من أن الوزارة لم تتخذ أي خطوات على الأرض حتى الآن لمواجهة حالة الطوارئ.
ويُشير الرياحي إلى أن الوزارة يمكن أن تستغل توفُّر الكادر الطبي المتخصص في فلسطين، وهو ما يمكن الاستناد إليه، وفقًا لنموذج غزة التي اعتمدت على الكوادر البشرية، وليس على البنية التحتية، في ظل استمرار تدميرها.
ويستدرك الرياحي بقوله: "لكن هنا يجب التركيز على أن طبيعة الضفة مختلفة عن غزة، فالضفة قد لا تواجه تدميرًا للبنية التحتية، وإنما الإغلاق والحصار"، متسائلًا: "هل هناك جهوزية في حال تقطّعت أوصال القرى والمدن عن بعضها، وخاصة مع تركز وجود المستشفيات الأساسية في المدن الكبرى؟".
ويتابع الرياحي: "أي خطة جهوزية يجب أن تعتمد على سحب الخدمات الطبية من المراكز إلى الأطراف، فلا فائدة من تجهيز المستشفيات في قلب المدن، إن لم يستطع المواطنون الوصول إليها".
**خطط وردية
وفي معرض الحصول على رد من وزارة الصحة الفلسطينية بخصوص مؤشرات نقص الجهوزية التي رصدناها في هذا التحقيق، أوضح القواسمي (رئيس إدارة الأزمات الصحية في الوزارة)، وجود خطة تفصيلية لحالات الطوارئ "تم تطويرها بعد الحرب على القطاع".
تتركز خطة "الصحة" على لجان في كل محافظة، يتم تفعيلها في أوقات الطوارئ، عبر بناء التجمعات الجغرافية وتقسيمها حسب وجود المستشفيات، وإمكانية الوصول إليها، والحواجز المحيطة.
وتتركز هذه الخطة -وفقًا له- على لجان الصحة في كل محافظة، بحيث يتم تفعيلها في أوقات الطوارئ من خلال العمل على بناء التجمعات الجغرافية وتقسيمها حسب وجود المستشفيات، وإمكانية الوصول إليها، والحواجز المحيطة وإمكانية العبور عبرها، ثم القيام بتدريبات مجتمعية مع الشركاء في القطاع الصحي، خاصة في أكثر المناطق عزلة، لضمان تقديم الخدمة الصحية الأولية إلى حين الوصول إلى الخدمة الأفضل.
يقول: "على سبيل المثال، في منطقة الأغوار، درّبنا نساءً قابلات للولادات الطارئة".
"المستوى الثاني للخطة، يعتمد على تحديد نقاط استقرار، تعتمد على عدد السكان في التجمعات وقربها من الخدمات الصحية، وتجهيزها ليتم تفعيلها في حالات الطوارئ، بعد تدريب كوادر من نفس المنطقة".
في حين يتركز المستوى الثاني للخطة، كما يشرح القواسمي، على تحديد نقاط استقرار، تعتمد على عدد السكان في التجمعات وقربها من الخدمات الصحية، وتجهيز هذه النقاط ليتم تفعيلها في حالات الطوارئ، وتعتمد على تدريب كوادر من نفس المنطقة السكانية.
وتكون المرحلة التالية، بالتعامل مع المرضى من خلال تحديد مراكز الرعاية الأولية في التجمعات السكانية وتأهيلها، مع تدريب طواقم محلية من نفس التجمعات.
ضمّت خطط الاستجابة أيضًا تحضير عيادات متنقلة "موبايل كلينك"، حيث تقوم الوزارة بتجهيز ثلاث منها لتكون بديلًا لمستشفى في حالات الطوارئ.
وزاد: "في المناطق التي تضم عددًا كبيرًا من السكان والمرافق الصحية، ولا تكفي لتقديم الخدمات، تم تأهيل 15 مركزًا طبيًا لتكون نقاطًا طبية، بحيث لا يتم نقل المريض إلى المستشفيات الكبرى إلا في الحالات التي تستدعي ذلك".
وضمّت خطط الاستجابة أيضًا تحضير عيادات متنقلة "موبايل كلينك"، حيث تقوم الوزارة بتجهيز ثلاث منها لتكون بديلًا لمستشفى في حالات الطوارئ.
"الوزارة عملت على تجهيز أفراد الطوارئ، وتدريب كل أقسامها، وتزويدها بأجهزة جديدة للفحص وسرعة الاستجابة، وتجهيز المستشفيات بمخزون من الأدوية والمعدات والمستلزمات لثلاثة أشهر على الأقل".
وفيما يتعلق بالمستشفيات والمراكز الطبية، يقول القواسمي: "إن الوزارة عملت على تجهيز أفراد الطوارئ، وتدريب كل أقسامها، وتزويدها بأجهزة جديدة للفحص وسرعة الاستجابة، وتجهيز المستشفيات بمخزون من الأدوية والمعدات والمستلزمات لثلاثة أشهر على الأقل. وقد جرى ذلك في مستشفيات جنين، وطولكرم، ورفيديا، وطوباس، والمرحلة الثانية في مجمع رام الله الطبي ومستشفى أريحا، وفي الثالثة في الخليل وبيت لحم".
وتابع: "بالإضافة إلى ذلك، تم تدريب الطواقم الطبية على إدارة الإصابات الجماعية من خلال برنامج متكامل، حددنا فيه وجود الكوادر الطبية والمراكز التي يمكن تفعيلها في حالات الطوارئ".
هل ستكون هذه الخطة فعّالة في حال تطبيقها؟ يُجيب القواسمي: "الأزمة المالية تحول دون ذلك حتى الآن، وتطبيقها يتم بحسب الأولويات وتوفّر الموازنات فقط".
لكن هل ستكون هذه الخطة فعّالة في حال تطبيقها؟ يُجيب القواسمي: "الأزمة المالية تحول دون ذلك حتى الآن، وتطبيقها يتم بحسب الأولويات وتوفّر الموازنات فقط".
كما بدأ الاجتياح في جنين فجأة، دون إنذار، قد تأتي الكارثة المقبلة بلا موعد. من سيكون حينها في المكان الصحيح؟ لا أحد يعرف.
إن أي امرأةٍ على وشك الولادة، أو شيخٍ بحاجة لغسيل كلى، أو طفل حرارته مرتفعة، لا يعرفون ما تعنيه "خطط الجهوزية"، هم يعرفون فقط أن الطوارئ حين تأتي، لا تمنح أحدًا فرصة ثانية.
على الورق، وزارة الصحة "جاهزة تمامًا": عيادات متنقلة، وتدريب مجتمعي، ومخزون أدوية.. كل شيء محسوب إلا سؤال بسيط: هل ستتمكن سيارة إسعاف من عبور الحاجز العسكري؟ أم أن المواطن سيُطلب منه "الانتظار لحين تحسن الظروف اللوجستية"؟ قادم الأيام كفيلٌ بالإجابة.