حكايات فلسطينية.. أرشيفٌ "حي" في قلب "سمر دويدار"
تاريخ النشر : 2025-07-06 13:38

غزة- القاهرة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في قلب القاهرة، حيث يلتقي نسيج التاريخ العربي بشوارع المدينة، نشأت سمر دويدار، ابنة لأب مصري وأم فلسطينية من غزة، لتغدو فلسطين جزءًا أصيلًا من تكوينها. منذ أن رأت الفدائيين الفلسطينيين بعينيها عام 1982م، حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها، أدركت أن هذه القضية لن تكون مجرد عناوين أخبار في حياتها.

في تلك السنة، اصطحبتها والدتها إلى بور سعيد لاستقبال الفدائيين الذين مرّوا عبر قناة السويس بعد خروجهم من بيروت إثر اتفاق توسطت فيه الولايات المتحدة. كان اللقاء حيًّا ومؤثرًا؛ رفعت سمر الأعلام الفلسطينية التي اشترتها مسبقًا، ولم تكن تتوقع أن أحد الفدائيين سيختارها لأداء مهمة شخصية جدًا: أوكل إليها إيصال رسالة كتبها لوالدته في لبنان، قبل أن يهديها خاتمه وعقاله "الحطة". كانت تلك اللحظة بذرةً لمشروع كبير ستنبت لاحقًا في قلب سمر.

نشأت سمر في منزل تقوده أمٌ فلسطينية من عائلة عريقة هي السيدة ميسون شعت، الناشطة النسوية المعروفة التي التحقت مبكرًا باتحاد المرأة الفلسطينية عام 1966م. في هذا البيت، لم تكن فلسطين مجرد ذكرى أو نشرة أخبار، بل كانت وجبة يومية بطعم المقلوبة، وتطريزًا يزين الأركان، وأغاني تعزفها الذاكرة. كان المعرض الدولي للكتاب في القاهرة موعدًا سنويًا ثابتًا لها، وهناك استمعت لمحمود درويش لأول مرة، بعد أن كانت تحفظ أشعاره شفهيًا.

كبرت فلسطين في قلب سمر، التي التحقت بكلية التجارة في جامعة عين شمس، وشاركت في الفعاليات التضامنية مع القضية. من إحدى المظاهرات المناصرة للانتفاضة الأولى، خرجت بحكاية حبّ أيضًا! تعرّفت على زوجها هناك، وتقول ضاحكة: "تعرفنا في مظاهرة من أجل فلسطين، وها نحن ما زلنا معًا."

في نهاية العام 2019م، حصلت سمر على أرشيف ثمين من والدتها، يضم أكثر من 300 وثيقة و600 صورة، توثق حياة عائلة شعت في فلسطين خلال العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات. رسائل شخصية، ومكاتبات رسمية، ولحظات عائلية، وتفاصيل من الزمن الفلسطيني الذي سبق النكبة. هنا بدأت فكرة "حكايات فلسطينية"، المبادرة التي أطلقتها سمر على شكل موقع تفاعلي، تحفظ فيه هذه الذاكرة، لا لعائلتها فقط، بل لكل من يملك حكاية فلسطينية تستحق أن تُروى.

من بين القصص التي اكتشفتها، حكاية خروج أخت جدها من القدس إلى غزة في عام 1956م، بعد وفاة زوجها واصطحابها لأطفالها العشرة.

استغرقت المراسلات بين جد سمر وشقيقته أكثر من سبعة أشهر، يخططان فيها لإخراجها، وسط صعوبات جمّة، ليتبين لاحقًا أن هذا التأخير سببه الاجتياح الإسرائيلي لغزة خلال العدوان الثلاثي على مصر. تقول سمر: "هذه التفاصيل الصغيرة قادتني إلى فهم أكبر لتشابك الجغرافيا والسياسة والحياة اليومية للفلسطينيين."

ولم تتوقف عند أرشيف عائلتها. فقد فتحت المبادرة الباب أمام الفلسطينيين في الشتات لمشاركة أرشيفاتهم العائلية، وإدخالها إلى المنصة التفاعلية.

بعد أسبوعين فقط من بداية العدوان، وسّعت نطاق المبادرة لتوثيق يوميات سكان غزة في ظل القصف والحصار.

الهدف -كما أخبرتنا- هو ترميم الحوار بين الأجيال، وربط الأبناء بأجدادهم من خلال وثائقهم وصورهم ومراسلاتهم؛ لتثبيت الرواية الفلسطينية بعيون أهلها، لا بعدسات الآخرين.

مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في تشرين أول/ أكتوبر 2023م، شعرت سمر بواجب جديد تجاه أهلها المحاصرين هناك. بعد أسبوعين فقط من بداية العدوان، وسّعت نطاق المبادرة لتوثيق يوميات سكان غزة في ظل القصف والحصار.

لم يكن العمل سهلًا، فقد واجه الفريق تحديات عدة: بعض الحسابات على وسائل التواصل كانت تُغلق فجأة أو تُقيّد، وأحيانًا تختفي كليًا، ما دفعهم للظنّ بأنها محذوفة. التحدي الأكبر -بحسب سمر- كان في استشهاد عددٍ من الشهود الذين وثقوا معهم، فتتوقف حساباتهم وتبقى فقط شهاداتهم الأخيرة محفوظة على الموقع، كأثر من كانوا هنا يومًا.

تؤمن سمر بأن المعارض ليست فقط مساحة عرض، بل أدوات توعية وحشد حول أهمية التاريخ الشخصي والأرشيف العائلي في كتابة الرواية الفلسطينية.

في سبتمبر الماضي، شاركت سمر في معرض بالأردن للتعريف بالمبادرة، وفي أثناء الحوار معها كانت تقتنص الوقت من مشاركتها في "معرض إسطنبول". تؤمن بأن المعارض ليست فقط مساحة عرض، بل أدوات توعية وحشد حول أهمية التاريخ الشخصي والأرشيف العائلي في كتابة الرواية الفلسطينية. الهدف الآخر هو الوصول إلى الشباب من الجيل الثالث الذين وُلدوا بعيدًا عن فلسطين، لدعوتهم لاستعادة حكاياتهم وإدخالها إلى الموقع.

ترى سمر أن لهذه المشاركات بُعدًا مقاوِمًا. فالمعارض والمنصة تدعوان الأفراد للمساهمة في توثيق أصوات الناس في غزة، باستخدام واجهة إلكترونية سهلة، تمنح كل فرد فرصةً للمقاومة، حتى من بعيد، ولو كانت وسيلته الوحيدة هي الكتابة والتوثيق.

"نحن لا نواجه النسيان فقط، بل محوًا ممنهجًا"، تقول سمر دويدار، وهي تمضي في مشروعها كمن يحمل ذاكرة وطن على كتفيه، مُصرة على أن كل صورة، كل رسالة، كل سطر، هو رصاصة في وجه العدم.