طفلان في خيمة وألعابٌ من وحي الحرب.. "إخلاء" مثلًا!
تاريخ النشر : 2025-06-10 20:32

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

كعادة الغزيين في التكيف مع أوضاع معيشتهم الصعبة، وعلى خطى آبائهم في تطويع المتاح لابتكار وسائل وأدوات بديلة تلبي احتياجاتهم، صمم الأخوين سعيد ويزيد الخضري (11 و14 عامًا) على التوالي، ألعابهم الخاصة المُستمدة من يوميات النزوح، لتحل مكان ما فقدوه أسفل ركام منزلهم المدمر.

ويشرح الطفل سعيد الخضري دوافعه لمحاولة ابتكار وتصميم ألعاب خاصة: "منذ أن أُجبرنا على النزوح تحت وطأة القصف لم أستطع حمل سوى حقيبة من ملابسي، تاركًا خلفي جميع ألعابي ومتعلقاتي، وزاد الطين بلة التشتت عن الأقارب والأصدقاء، مما خلق لدي شعور حاد بالملل اختلط بمشاعر الخوف الشديد والرغبة في الهرب من الواقع الصعب نحو اللعب".

ويردف الخضري: "كان من الصعب ممارسة الألعاب التي نعرفها قبل الحرب، فقد كنت وأخي يزيد نفضل اللعب على البلايستيشن بحسب المدة المسموحة لنا بعد إنهاء واجباتنا الدراسية، أما في حياة الخيام والحرب، فلا كهرباء ولا بلايستيشن ولا مساحة آمنة نشارك فيها بالألعاب الرياضية والبدنية".

مونوبولي الحرب

اعتاد الأخوان الخضري اللعب بلعبة "مونوبولي" الشهيرة برفقة أصدقائهم وأبناء عمومتهم قبل اندلاع الحرب وبدء مسلسل النزوح، لتلمع في خيالهم فكرة إعادة بناء لعبتهم المفضلة باستخدام أدوات بسيطة، فكانت الرقعة الأساسية مكونة من قطعة كبيرة من كرتون يعود لأحد الطرود الغذائية، أما أوراق اللعب فكانت من بطاقات الإنترنت المستخدمة، ومن هنا اندلعت شرارة التعديل على الألعاب القديمة، بما ينسجم مع المكونات المتاحة لديهم.

وعن تلك التجربة يحكي الشقيق الأصغر يزيد: "انبهر أصدقاؤنا وجميع من حولنا بلعبة مونوبولي الحرب، وسارعوا لمشاركتنا شغف لعبها وساعدونا بإدخال بعض التعديلات عليها، وكان أكثر ما لفت انتباه الجميع هو قيامنا باستبدال الأماكن والأسماء والمصطلحات الخاصة باللعبة الأصلية بأماكن ومصطلحات عرفناها في الحرب والنزوح، كالمواصي والطيارة والبركسات وغيرها، فكان كل من يقرأ أحد هذه المصطلحات ينفجر ضاحكًا وهو يرددها على طريقة سائقي عربات الأجرة".

ولم يتوقف ابتكار الشقيقين عند هذا الحد، بل أتبعوا لعبة "مونوبولي الحرب" بتصميم رقعة شطرنج باستخدام أغطية الزجاجات البلاستيكية بديلًا للبيادق، لممارسة اللعبة التي يحلم سعيد باحترافها بعد أن تعلم من والده قبل الحرب ممارستها وبعض الخطط والأفخاخ الخاصة بها، وبدوره علمها لشقيقه الأصغر يزيد.

لم تغب مصطلحات الحرب عن تسمية ألعاب الطفلين الجديدة، مثلًا لعبة "إخلاء" التي تعتمد على تقسيم اللاعبين إلى مجموعتين معهما أغراض بسيطة، وحَكمٌ يطلق فجأة نداء الإخلاء، ليقوم كل فريق بحمل ما لديه من أغراض والخروج في أسرع وقت ممكن للفوز "بالنجاة".

وبعد مرحلة التعديل على الألعاب الشائعة بما ينسجم مع المكونات المتاحة، انتقل الخضري وأصدقاؤه إلى محطة متقدمة تمثلت في ابتكار ألعاب جديدة كليًا، تحمل في طيّاتها مشاهد وأنشطة من الروتين اليومي لحياة النزوح، ومنها لعبة "الطابور"، التي تعتمد على السرعة في إنجاز مهام مشابهة للمهام اليومية التي أصبحت مسؤوليتهم رغم حداثة سنهم.

ولم تغب مصطلحات الحرب عن تسمية ألعابهم الجديدة، ولا مشاهدها المتكررة من إلقاء ظلالها على تفاصيل ممارستهم لها، ومنها لعبة "إخلاء" التي تعتمد على تقسيم اللاعبين إلى مجموعتين متساويتين في مربعين متماثلين فيهما مجموعة من الأغراض البسيطة، وحكمٌ يطلق فجأة نداء الإخلاء، ليقوم كل فريق بحمل ما لديه من أغراض والخروج في أسرع وقت ممكن للفوز "بالنجاة".

بين الفخر والخوف

وتعبر ميساء الخضري، والدة الطفلين سعيد ويزيد، عن شعور متناقض داخلها بين الفخر بأطفالها، وما أظهروه من مهارات تشير إلى الذكاء والقدرة على قهر الظروف وتجاوز العقبات، وبين خوفها الشديد من الأثر العميق الذي حفرته الحرب في وجدان أطفالها، وما يمكن أن يترتب عليه في المستقبل.

وتقول لـ"نوى": "استقبلت محاولات طفليَّ ابتكار ألعابهم الخاصة بحفاوة وتحفيز، وشعرت بالفخر الشديد بكونهما وصلا إلى المرحلة التي استطاعا فيها توظيف ذكاءهما، واستكشاف دروب جديدة لإشباع بعض احتياجاتهما باستقلالية، ودون طلب المساعدة مني أو من والدهما، لكن عندما تعرفت على تفاصيل هذه الألعاب واكتشفت أفكارهما شعرت بخوف شديد".

تحاول الخضري الإبقاء على الحد الأدنى من السلامة النفسية لأطفالها، وحمايتهم من الانحدار في تصديق الواقع الحالي على أنه الحقيقة الدامغة وليس مجرد ظرف عارض سببه الحرب.

وتكمل: "أيقنت في ذلك الوقت مدى عمق التأثير الذي تركته الحرب في نفسيهما وعقليهما وذاكرتهما، وعرفت أن محاولاتهما لصنع ألعاب تحمل بعدًا من استئناس المعاناة والخوف وليس قتل الملل فحسب، وهذا ينذر بكارثة قابلة للتفاقم مع توالي الأيام والأحداث".

وتحاول الخضري الإبقاء على الحد الأدنى من السلامة النفسية لأطفالها، وحمايتهم من الانحدار في تصديق الواقع الحالي على أنه الحقيقة الدامغة وليس مجرد ظرف عارض سببه الحرب، وتدأب على إنارة ذاكرتهم باستذكار الماضي القريب قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وتغذية طموحاتهم المستقبلية عن طريق خلق مساحة للحلم والتمسك بتحقيق المجد الشخصي، والتأكيد على أن الإنسان وجِد ليعيش حياة كريمة وآمنة ومستقرة، بعيدًا عن الأشكال المختلفة للموت والخراب.