ثلاثون يوماً.. أطفال من غزة يتنفسون الحرية
تاريخ النشر : 2022-12-08 11:02

"لا أجمل من ثرى فلسطين، بحرها وجبلها، وليس أغلى من الحرية، ولا أقسى على النفس أن تمر بمدن فلسطين التاريخية خارج حدود قطاع غزة ولا تتمكن من استنشاق هوائها، بل قد يكون الأشد قسوة، أن تعود بإرادتك لسجن غزة بعد أن جربت أن تكون حراً لبعض الوقت" هو ليس مجرد كلام إنشائي، لكنه انعكاس طبيعي لتجربة عايشها أطفالي، جربوا ثلاثون يوماً من الحرية، خارج الوطن، هواء يبدو مختلف تماماً عن هواء غزة، شوارع نظيفة، ومنتزهات تنتشر في كل مربع سكني، وهنا لا يدور الحديث عن  عاصمة، أو مدينة كبرى، فالأمر سيان ولا اختلاف بين مدينة وأخرى، أو شارع وآخر تبعاً لمن يقطنون فيه، لكنها بلديات تحترم المواطن و تتسباق فيما بينها لتقديم أفضل خدمات له

حتى صوت تلك الطائرات التي نسمع صوتها ونشاهدها من حين لآخر في الأجواء لم تعد تعني شيئاً لطفلي الصغير عبد الحميد الذي خرج من العدوان الأخير بخوف لا يكاد يجعل عينيه تغمضان في ساعات الليل، بينما تتلخص كل أحلامه بشكل يومي بكوابيس تنحصر فقط فيما يخص العدوان، والقصف الذي يراه في منامه يطال منزلنا تارة، ومنازل أصدقائه تارة أخرى، ولعل هذا كان الدافع لإخراجهم ولو لأيام، بعيداً عن هواجس ومخاوف العدوان، لعالم يعج بالحياة.

هناك خارج حدود غزة، سواء في عمان، أو تركيا، كنت أراه في الليل نائم كملاك، لا يكاد يوقظه شيء، بعد أن كان يقفز كل ليلة من منامه عدة مرات، يهرع إلى سريري، بحثاً عن الأمان.

أما سجى فكانت مع نهاية كل يوم تشعر بغصة مع اقتراب موعد العودة، ليس كرهاً في غزة، لكنها الحرية التي تنفستها وأحست بها بينما هي محرومة منها في قطاع غزة المحاصر، هناك شعرت بالإنسانية، وتذوقت جمال الطبيعة الخلابة، وجمال المسافات الطويلة على الأرض وفي السماء، تلك التي لم تجربها يوماً.

سافرنا عبر معبر بيت حانون، وكانت هذا المرة الأولى التي يرى أطفالي، سجى ومصطفى وعبد الحميد الجزء الآخر من الوطن، بينما كانت آخر مرة وطـأتها قدماي قبل ما يقارب سبع سنوات، من خلال مؤسسة فلسطينيات، صحيح أننا لم نتمكن هذه المرة من دخولها، لكننا شممنا رائحتها، وشدتنا طبيعتها الجبلية الخلابة.

هَمَسَت بأذني سجى حينها، "كم أتوق لأن أسير في شوارع رام الله، أو الخليل، أن أرى المسجد الأقصى، أن نصلي فيه" ربتت على رأسها وهمست "ما باليد حيلة"!

وصلنا أخيراً إلى عمان، المحطة الأولى في طريقنا، هناـك كانت فرحتنا كبيرة، فلأول مرة سيحظى أطفالي مصطفى وعبد الحميد من رؤية عمتهم المقيمة هنا، بينما لم تراها سجى سوى مرة أو مرتين خلال سنوات عمرها الـ 15، كان لقاء محموم بالأحضان والدموع، ساعات قليلة لكنها كانت كفيلة بأن تطفئ شوق سنوات طويلة، وتشعل حنين لا يهدأ، وأمل بتجدد اللقاء.

تنفس أطفالي أخيرا الحرية، صحيح أنها حرية مؤقتةـ، كما وصفها والدهم في أحد إصدارته الأدبية، لكنها كفيلة بأن تمحو ذكريات قاسية عاشوها أثناء العدوان الأخير على قطاع غزة، فعلى أقل تقدير كانوا بالفعل مدركين في هذا العدوان لكل ما يحدث، رغم قصر أيامه لكنه كان الأكثر إيلاماً وتأثيرا عليهم.

حاولت بكل الطرق أن أمحو تلك التجربة من ذاكرتهم، لكن أزيز الزنانة التي لا تكاد تتوقف فوق رؤوسنا طوال الوقت، كانت تذكرهم وتبعت في قلوبهم الرعب مما يمكن أن يصيبهم، أو يصيب أي كائن حي في قطاع غزة.

في مدينة أفيون التي تتربع على سلسلة جبلية، تمكن أطفالي من صعود الجبال، والتمتع بطبيعتها الخلابة، تلك التي حرموا منها في بلادنا فلسطين، هناك لعبوا والتقطوا كثير من الصور، فقط كانت سجى تقف كل صباح على الشرفة، تتأمل سفح الجبل الذي تصادف أن يكون مكان إقامتنا في بدايته، طبيعة خلابة يا أمي، لماذا نحن محرومون من هذا الجمال في بلادنا؟؟

كثيرة هي الأشياء التي أخبرت بها سجى زميلاتها في المدرسة عند عودتنا، مغامرة السفر التي سنحت لها الظروف أن تمر بها، قالت لهن: “حقيقة لم أكن أتوقع أن أحظى بهذه الفرصة، كان حلماً فقط لم أتخيل تحقيقه، أن أسافر وأرى العالم كيف يبدو هناك بعيد عن عالمنا الصغير داخل حدود قطاع غزة".

كنت أتلهف وأنا داخل الباصات المخصصة لمرورنا عبر حاجز بين حانون وتبحلق كلتا عيني بالفضاء، هذه أرضنا التي لا نستطيع أن نشم ريحها إلا من خلف أبواب محكمة وإجراءات غاية في الدقة كي لا يتسرب أحد خارج حدود هذا الباص".

في رحلة الذهاب كان عبد الحميد يخشى الصعود إلى الطائرة فهي في عقله الصغير لا ترتبط سوى بتلك الطائرات الحربية التي كانت تحمل الموت وتوزعه على سكان قطاع غزة، في كل زيارة لأجوائنا، لكنه انتصر على مخاوفه بعد سلسلة من محاولات الإقناع مارسناها طوال الطريق إلى المطار.

انشغل اطفالي خلال رحلة الذهاب والإياب في تصوير  مقاطع فيديو، على متن الطائرة، كم يبدو العالم صغيرا في الأسفل وها هي الغيوم تقترب منا كثيراً لو أخرجت يدي لأمسكت بها، هي كالثلج تزين السماء "قال مصطفى.

في طريق العودة، كانت الغصة أكبر، فها نحن نقترب أكثر من سجن غزة الكبير، المحروم أطفاله من أبسط الحقوق الإنسانية، حتى الحق في الحياة، أكثر الحقوق قدسية، لا ضمان له داخل حدود قطاع غزة، فالموت أقرب ما يكون، لا مكان آمن في قطاعنا المحاصر.

ما أن وطئ الباص أرض فلسطين، وبدأ يسير عابراً من مدن فلسطين التاريخية، تشبث غالبية من في الباص محملقين نحو الخارج، كنا نحاول طوال الوقت التقاط كل ما تطاله عيوننا وتسجيله في ذاكرتنا البصرية، نقرأ كل يافطة، ونبحث عن الحروف العربية التي تدلنا على المكان، فهذه الأرض أرضنا لكننا لا نملك الحق في أن نطأها بأقدامنا، فقط عيوننا وما يمكن أن تلتقطه هواتفنا النقالة من صور، تبقى في ألبوم ذكرياتنا، وبداخل كل منا أمل بأن يأتي يوم نقبل فيه تراب هذه الأرض، ونحن نهنأ بحرية كاملة.