رحلة في "زرقة" غزة
تاريخ النشر : 2022-10-18 19:29

قطاع غزة:

"نصف ساعةٍ شعرت فيها أنني إنسانة. من دون مبالغة، طرت في البحر على متن مركبٍ سياحيٍ صغير. طارت روحي وحلّقت في سماء غزة عاليًا، أو لعل ذلك خُيّل لي. نصف ساعة تمنيت لو أنها لا تنتهي. تنفّست هواءً نظيفًا. لم أسمع ضجيج المدينة، ولا تأفف الناس من الأوضاع. سمعتُ هدير البحر فقط، وغنيت له "البحر بيضحك ليه" للشيخ إمام".

قصّةٌ قصيرة ترويها سمر عليان عن رحلتها في بحر قطاع غزة، برفقة صديقتها. رحلةٌ لم يكن مخططًا لها، لكنها حدثت بزيارةٍ للميناء من أجل تناول كوبٍ من القهوة.

تقول: "سمعت الريّس ينادي على عرضٍ لـ"سفينةٍ سياحية"، بخمسة شواقل فقط للراكب الواحد. بصراحة لقد حلمت بمثلها كثيرًا لكنني لم أتجرأ لفعلها مرة".

لعلها "النظرة السلبية الدائمة للأمور" -ترجح سمر- كسببٍ لتأخر الخطوة، "فماذا لو هاجمنا الاحتلال ونحن في البحر؟ هل سننجو؟ هل سنعتقل؟ هل سنصاب؟" تتساءل ضاحكةً، وتكمل: "والله لما يقرر يهاجمنا بهاجمنا، تمامًا مثل ما بيسقط منازلنا فوق رؤوسنا. خوفنا مبرر صدقوني، ونحنا على هوا اللي عشناه صرنا دراميين جدًا"

نصف ساعة في بحر غزة، كانت من أمتع اللحظات التي مرّت بحياتها. دخول البحر في غزة ليس سهلًا، أمر يستحق المغامرة، المعدات بسيطة، والخطر قائم بوجود الاحتلال الذي لا ينفك عن مهاجمة الصيادين، "لكنني فعلتها" تصرخ سمر بانفعال.

نحن الصحفيون، ربّما لا نملّ الكتابة عن غزة، وإن تكررت الفكرة، لكن أحداثًا كهذه جديرة بالتغطية. تمامًا كأن نقول "إنه المنفذ الوحيد أمام أكثر من مليوني إنسان يعيشون هنا. يفرحون أمام البحر، يتناولون الذرة المشوية، وحبّات البطاطا الحلوة، ويترددون إلى الميناء حاملين أكياس بذر البطيخ التي لا تنتهي برفقتها الأحاديث الهامشية.

"بحر غزّة ممتلئ بالقصص"، يخبرنا محمد حسنين الذي انطلق في الرحلة ذاتها للمرة الأولى. تأمّل أمواجه، وتخيل أبعد نقطة فيه كما يفعل كل الصغار. يتساءل بعفوية: "يا ترى ما نهاية هذا البحر؟ يا ليتنا نعرف! لو لم تكن فلسطين محتلة ربما عرفنا، الآن لو فكرنا بهذا سنصطدم بالجنود المدججين بالأسلحة".

ويزيد: "كسرت روتين حياتي للمرة الأولى منذ ٢٣ عامًا. منذ ولادتي لم يحدث هذا الأمر. لم أخرج برحلة بحرية. لم أسافر. لم أشاهد غير الفلسطينيين في غزة بحياتي".

خضر بكر صاحب مركب "ست الكل للسياحة" هو صياد بالأساس، لكنه قرر العمل بمجال السياحة بسبب سوء أوضاع الصيادين، فكيف يسير الأمر بالنسبة له؟

"أظن الناس يهربون إلى البحر، وأنا معهم كذلك" هكذا فتح قلبه، وأكمل: "إن رحلات السياحة التي سيّرتها بمثابة عمليات هروب مؤقت من أوضاع غزة والحصار القائم عليها. يشعر الناس أنهم تحرروا بالوصول إلى نقطة أبعد من الشاطئ بمسافة لا تتجاوز الثلاثة أميال بحرية غالبًا، ولمدّة تتراوح بين 10 دقائق ونصف ساعة فقط".

عن مركبه يخبرنا: "أخذتُ قرضًا من البنك لشرائه، بعد أن صادر الاحتلال مركبي عام 2014م، وتسبّب بخسارتي مبلغًا ماديًا بقيمة 20 ألف دولار، لأبدأ مسيرة أخرى من الصفر، مثقلة بالديون والهموم، لكنها برأيي أفضل من الاستسلام للأوضاع".

لكن لماذا "ست الكل؟" تسمية المركب جاءت بقرار عائلي، كونها تعيل أسرته المكونة من 13 فردًا، خلال فصل الصيف الذي يعدّ موسمًا بالنسبة له، في حين يعود للصيد بفصل الشتاء، كون لا خيارات أخرى.

وتبدأ أسعار الجولات البحرية من 20 إلى 50 شيكلًا، بحسب مدّة الرحلة، وتقسّم على الركاب مراعاةً للظروف الاقتصادية، التي يمر بها المحاصرون في غزة.

تلمع بعيني خضر نظرات الناس نحو البحر، واستمتاعهم خلال مسافة الرحلة، ينظر إليهم بفرحٍ وأسى في آنٍ معًا. "ماذا لو كنا في مكانٍ آخر غير غزة؟ هل سنعيش نفس المأساة لأسبابٍ أخرى؟ أم ستكون حياتنا أفضل بعيدًا عن الاحتلال؟" يظل يتساءل شاردًأ بذهنه قبل، لتيقظه طلقة واحدة من جانب الاحتلال أحيانًا، لا سبب لها سوى تنغيص "راحة البال المؤقتة تلك".