أرغفةٌ غُمست بالدم على مائدة "أبو جاسر"
تاريخ النشر : 2022-08-18 13:29

كان صباحًا عاديًا. عائلةٌ يجمعها دفء الضحكات قررت تناول طعام الفطور. أم محمد أبو جاسر جهّزت المائدة، ونادت زوجها وابنتها، أما ولديها فسبقاها بأنفيهما إلى رائحة الخبز الذي انتُشل لتوه عن النار وتربعا على الطاولة قبل الجميع.

انفجارٌ عنيفٌ هزّ أرجاء المنزل قبل "بسم الله" ثم غابت الوجوه في بياض الغبار. جدران المنزل تحولت إلى ركام، وهوى السقف فوق رؤوس الآمنين هناك. خلال ثوانٍ انقلب المشهد، وملأت الصرخات صدر المكان، واختنق المخيم بآهات مَن هرعوا للإنقاذ. لا شيئ يشبه ما كان هنا من "حياة".. الموت صار عنوانًا حتى على رغيف الخبز.

هذا الانفجار لم يمر "عاديًا" بمجرد أن خرجت العائلة "على قيد الحياة" -مجازًا- من تحت الركام، فالندوب التي تركها داخل الروح وخارج الجسد أمعنت في قتلهم أحياء.

تصف صابرين الابنة التي كانت نائمةً في غرفتها آنذاك الحدث بقولها: "وكأنه زلزال أتى على كل شيء. في البداية لم أكن أتوقع مطلقًا أن يكون القصف داخل منزلنا، لكن الغبار الذي غطى المكان، والحجارة التي تناثرت حولي حالت دون رؤيتي لأي شيء، وهذا جعلني أوقن أن القصف أقرب من توقعاتي".

تكمل بحسرة: "كانت غرفتي بعيدة إلى حد ما عن مكان سقوط الصاروخ، لكنني ما أن خرجت حتى شعرت بأن أطرافي تجمدت في مكانها. رأيتُ والدتي، ووالدي، وشقيقتي، وأشقائي جميعهم مصابين، غطتهم الدماء والركام".

كانت لحظات صعبة على قلبها، حتى أنها ظنّت باستشهاد أمها. "لقد غطت وجهها الدماء ورأسها الدماء، كان المشهد مرعبًا وكأنه اقتلع قلبي" تزيد.

احتاجت أم محمد إلى ما يزيد على مئة قطبة، ناهيكم عن رأسها. كانت صابرين لا تعلم، أتبكي على أمها؟ أم على شقيقتها إيمان التي أصابتها حروق في جسدها، وشظية في عينها أفقدتها الرؤية تمامًا، فانقلبت حياتها رأسًا على عقب.

هي لا تعرف إلا أن "إيمان" اليوم وفي عمر العشرين، تحمل فوق رأسها "غُمة" لا تشبه ظنّها في المستقبل أبدًا.

كانت إيمان مقبلةً على الحياة بكل ما تملك من طاقة، تحب الحياة ما استطاعت إليها سبيلًا، وفق ما تصف صابرين، "كانت تنتظر بشغف أن تستكمل دراستها الجامعية لتنخرط في العمل المجتمعي، فلا قيد يمكن أن يحول دون تحقيق حلمها، أو هكذا كانت تظن".

تجلس إيمان اليوم على سرير العلاج في مستشفى الشفاء، ولا تعلم إن كانت ستشفى من الحروق التي أصابت جسدها، أو ستتمكن من الرؤية بعينها التي أصابتها شظية أثناء قصف مخيم جباليا.

أما شقيقها أحمد الشاب الثلاثيني الذي فقد قدمه أثناء مشاركته في مسيرات العودة، فلوحده قصة. مصابه مضاعف رغم أنه لم يصب بأي أذى خلال استهداف منزل عائلته، فغرفته التي يعيش بها مع زوجته وأطفاله تبعد قليلًا عن مكان الاستهداف.

يقول لـ "نوى" بينما يحاول أن يستجمع قواه: "ما زلت أعيش حتى اللحظة تحت تأثير الصدمة. أكثر ما أوجعني أنني كنت عاجزًا عن تقديم المساعدة لأهلي الذين سقطوا جرحى أمام عيني".

يتابع بأسى: "كنتُ كلما هممت بالوصول إليهم أسقط أرضًا، وأحاول مجددًا لكن بلا فائدة. جلستُ أغالب دموع القهر، حتى جاء المنقذون وأخرجوني من المكان بعد إخلاء والدتي ووالدي وأشقائي الذي كانوا جميعًا مصابين بفعل القصف".

يكمل وهو يحاول تمالك دموعه: "لم أتعرض قبل اليوم لموقف أشد قسوة من هذا، هذه المرة شعرت بعجزي فعلًا"، ثم يتمتم بحسرة: "كل ما أتمناه اليوم أن أتمكن من تركيب طرف صناعي، يساعدني على الأقل على حماية نفسي وعائلتي خلال أي عدوان قادم".