المدينة تمشي على عكازين في "حديقة السيقان"
تاريخ النشر : 2022-04-20 13:37

"كنتُ أرى المدينة تمشي على عكازين. لقد أردتُ توثيق التاريخ برؤيةٍ أدبية فكانت حديقة السيقان" يقول الكاتب محمود جودة لـ"نوى".

وحديقة السيقان رواية، أصدرها الكاتب جودة أواخر العام المنصرم، ليخبر العالم من خلالها عن تفاصيل الحياة بعد الإعاقة. ذلك الوجع، ومرارة النظرة المجتمعية القاتلة. يضيف: "في كل مكانٍ تصوِّب نظرك إليه ترى شابًا يسير على عكاز أو عكازين. أحدهم على رأس الشارع، وآخرون يجلسون على عتبة منزلٍ في المخيم، في السوق، وفي العيادات، شبابٌ في مقتبل العمر، أضيفوا إلى قائمة الآلاف من ذوي الإعاقة الذين خسروا أقدامهم بسبب رصاصة حقدٍ أطلقها جنديٌ بمنتهى البساطة".

مشاهد استفزت عقل وروح الكاتب في قلب جودة، لا سيما وأن التضامن الشعبي مع هذه الفئة لم يكن بالمستوى المطلوب، "بل وصلت الأمور إلى أن المجتمع كان يحملهم المسؤولية إزاء ما حل بهم". يعقب: "شعرت بأنني محاصر بآلامهم، ومعاناتهم من إعاقة أصابتهم في بداية شبابهم فقتلت مستقبلهم، وأحلامهم".

في روايته، استحضر الكاتب شخصية "حسن" الذي كان صديقًا للسارد، وهو من أنشأ حديقةً بالقرب من السياج العازل على الحدود الشرقية. هذه الحديقة أقيمت على سيقان وأشلاء الشبان الغاضبين الذي خرجوا في آذار/ مارس من عام 2018م، ليعبّروا سلميًا عن حقهم في العودة.

كان حسن يجمع ما تبقى من قطع اللحم والسيقان المفتتة والأصابع المقطوعة، ويغرسها في الأرض، ويزرع فوقها الزهور، "فالزهور التي تراها، زهور تنبت على ساق أو يد أو قدم، أو قحفة رأس".

يعترف جودة بأن جرعة الألم كانت عالية في روايته، وهو ما كان معنيًا بإظهاره لتوثيق جريمة الاحتلال بحق هؤلاء الشُبّان والشابات الذين خرجوا غير مسلحين سوى بحقهم في العودة إلى بلداتهم التي هُجّروا منها قسرًا على يد الاحتلال.

يؤمن الكاتب جودة بأن الأدب هو الأصدق في نقل رواية شريحة المبتورين، ويبقى وحده الضمان الوحيد بألا تموت الحكاية الغارقة بالتفاصيل القاسية والموجعة، التي غابت حتى عن الصحفيين الذين نقلوا الأحداث أولاً بأول.

"بينما السياسي يستغل الحدث لتحقيق إنجازات يظنها كبيرة" يكمل، مستدركًا: "لكنها محض إنجازات صفرية مقابل الدماء والأرواح والأطراف التي قتلت بدم بارد، هذه الرؤية بدت جلية في الحوارات وحالة الاختلاف التي كانت تدور بين أبطال الرواية".

تدور أحداث الرواية في جغرافيا قطاع غزة، وتحديدًا في منطقة السياج الفاصل بين القطاع والأراضي المحتلة عام 1948م، في عمرٍ زمنيٍ يُقارب ستة أشهر.

اهتم الكاتب بإظهار المعاناة والوجع الذي صاحب الشبان المبتورين بعد الإصابة، وكيف تغيّرت حياتهم ليحتاجوا إلى معيلٍ بعدما كانوا مشاريع لشبابٍ منتجين فاعلين. "استهداف الجنود لمناطق محددة في أجساد هؤلاء الشباب، كأنما كان لتدمير وتعطيل جيلٍ بأكمله" يعقب.

ولكن ماذا عن أبطال الرواية؟ يجيب جودة بقوله: "في أي عمل أدبي لا بد من أرضية حقيقية، ولذلك كان عليَّ أن ألتقي أبطال روايتي على أرض الواقع فأستمع إلى أوجاعهم، أدخل بيوتهم لأنقل أحاسيسهم، وأدق التفاصيل التي تمر بهم، وكل ما يمكن ألا يمتلكوا الجرأة للحديث عنه"، مردفًا بعد ابتسامة: "أعترف أنني كنت أستفزهم لأخرج كل ما بداخلهم".

يزيد: "كل أبطال روايتي حقيقيون، وكل ما فعلته أنني طوعت الأدب لأتمكن من تحويل الشهادات الحية إلى شكل أدبي روائي يُمكّنني من الربط بين المجازات التعبيرية وحبكة الرواية دون أن أحرف بوصلة الحقيقة عن مسارها".

يؤكد جودة أنه أراد محاكمة الاحتلال بالدرجة الأولى من خلال الرواية، "فقد عطّل مستقبل جيلٍ بأكمله"، لكن الواقع السياسي الفلسطيني المأزوم بفعل الانقسام ليس بريئًا من هذه السيقان التي تناثرت على الحدود أيضًا، حينما حرف السياسيون المسيرات الشعبية السلمية عن هدفها.

تحفل الرواية بالعديد من الشخصيات التي تروي حكايتها، والأوجاع التي بدأت مع انطلاق الرصاصة ولم ولن تنتهِ، بينما يظل حسن ملازمًا لسارد الرواية طوال أحداثها التي تنقسم إلى عدة فصول، يحمل كل منها عنوانًا، وتبدأ بإبراهيم الشاب الذي يبحث عن قضيةٍ يتبناها، وحين يصل للقضية يصبح عاجز جنسيًا، وبذلك فقد الحياة والمستقبل، وسواءً فقد الشبان رجولتهم، أو فقدو سيقانهم، فقد تعطلت حياتهم لأمدٍ طويل.

تنتهي الرواية بجمعة دامية جديدة، تروي الدماء حديقة السيقان التي تنمو وتتحول إلى عملاقٍ عظيم لا يؤثر فيه الرصاص ليكون هو أول العائدين.

نهاية أراد بها الكاتب أن يختزل كل الدماء والأعضاء والشهداء طوال سنوات النكبة، تلك التي أكد أنها لن تذهب سدى مع عودة المهجرين دون أن توقفهم رصاصة.