فساد مبني على "النوع" في جمعيات خيرية ونظام شكاوى "قاصر"
تاريخ النشر : 2022-03-07 19:49

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

بكلماتٍ ترتعش أسى، تشكو السيدة الثلاثينية أم عطا الحال داخل مقرات بعض الجمعيات الخيرية بقطاع غزة: "أشخاص بوضعٍ مادي جيد -أعرفهم شخصيًا- يحصلون على المساعدات، وكبار سن أراهم هناك في أوضاعٍ مذلة".

يتم تهميش تلك الأم التي تعيل خمسة أطفال بينهم ابن وابنة يعانيان من إعاقاتٍ وراثية، وتختصر الردود معها بعبارةٍ واحدة: "اتركي لنا ملفك، وسنتصل بك". تستدرك: "لكن عندما يطول انتظاري أعود لمراجعة الموظف، لأقابل بالردود الجافة، والأصوات المرتفعة، وفي الوقت ذاته أرى بأم عيني مظاهر المحسوبية والتوسط للأقارب كي يحظوا بمساعدات عاجلة".

مستفيدة: بصراحة ليس لدي أي استعداد لتقديم شكوى، فخطوةٌ كهذه ستعطل معاملاتي إلى أن يشاء الله

ليس ذلك وحسب (تكمل السيدة)، "فقد عشتُ مشاهد كثيرة من التمييز واللفظ، جعلتني أذوب خجلًا لدى طلبي المساعدة (..) لولا الحاجة لما سمحتُ لأحدٍ أبدًا بأن يتعامل معي بهذه الطريقة المهينة، وبصراحة ليس لدي أي استعداد لتقديم شكوى، فخطوةٌ كهذه ستجعلني في مرمى نيران الموظفين، وستتعطل بناءً على ذلك معاملاتي إلى أن يشاء الله".

"نوى" تفتح الباب على مصراعيه للحديث عن بعض التجاوزات التي تتعرض لها النساء في بعض الجمعيات الخيرية، في ظل نظام شكاوى وصفته معظم من التقتهن الشبكة بـ "القاصر"، إما لعدم وجوده أو الإعلان عنه داخل مقر الجمعية، أو لعدم الجدوى منه كون الشكاوى "لا تقدم ولا تؤخر" بحق الموظف مرتكب التجاوز، "وما يمكن أن يتبع ذلك من عقوبات للمشتكية تتعلق بحقها في استلام المساعدات فيما بعد" كما تؤكد إحداهن..

عدم وجود سياسات وأنظمة وأدلة مكتوبة وواضحة للنظام المعمول به لتقديم الشكوى في بعض الجمعيات، وعدم الوعي بقضايا النوع الاجتماع، ومخاطر الفساد الذي قد يبنى عليه،  بالإضافة إلى غياب أثر الرقابة  والمساءلة، وعدم وضوح المرجعيات القانونية في إطار أي شكوى تقدم ضد جمعيةٍ خيرية، أو موظفٍ عاملٍ فيها.. كل هذا تسوقه "نوى" عبر هذا التقرير:

"تعنيف لفظي وإذلال"!

بالعودة إلى أم عطا التي تعيش ظروفًا اقتصادية واجتماعية صعبة، فمنذ عدة سنوات هاجر زوجها  إلى أوروبا بحثًا عن طوق نجاة لأسرته، وتركها في منزل يفتقر إلى أدنى الأساسيات  بمنطقة الصفطاوي (شمال مدينة غزة).

تظن السيدة التي فضلت كتابة كنيتها فقط، أن مصيرها سيكون معروفًا لدى تقديمها أي شكوى يتعلق بتعامل الموظفين معها في أي جمعية، "فقد رأيت بأم عيني شابًا يهدده الموظف بقطع المساعدات عنه على الملأ لأنه اختلف معه، واعترض على طريقة تعامله" تقول.

مستفيدة: أفضل الصمت رغم أي ضمانة، على انقطاع المساعدة التي تعيل أبنائي

وما عرفته أم عطا فيما بعد أن المساعدة قطعت عن الشاب المذكور فعلًا، مردفةً: "سيضعون على اسمي إكس أحمر  (..) وعليه أفضل الصمت رغم أي ضمانة، على انقطاع المساعدة التي تعيل أبنائي".

كذلك، كان الحال بالنسبة للسيدة أم يزن، التي تقطن مخيم النصيرات، وبسبب معاناة ابنها من التوحد، تضطر لمراجعة الجمعيات المعنية بمساعدته ماديًا وتأهيليًا.

تقول: "إحدى الموظفات بمركز تأهيل، أوقفت ملف ابني بذرائع  طبيعية  بالنسبة لحالته، شعرتُ بالقهر، وتقدمتُ بشكوى للمدير الذي أنصفني بالفعل، وأعاد ابني إلى الصف".

ويا للأسف، هذا الانتصار لم تشعر بلذته أم محمد دهليز، التي رأت بأم عينها  موظفًا في  إحدى الجمعيات العاملة في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، يشتاط غضبًا من المراجعين عندما تجمهروا أمامه، "لدرجة أنه دفع زوجي الكفيف عن السلالم، ولولا ستر الله، ومساعدة بعض الموجودين لكان سقط وتضرر"  تخبرنا.

يتبادر إلى ذهن السيدة الأربعينية، ذلك التعامل الفظ، وتلك النظرة الدونية التي  تلقتها منذ  أخرجها   انقطاع   "شك الشؤون"،  للبحث عن طردٍ غذائي، أو مساعدة مادية تسد رمق أسرتها، كيف لا؟ وهي الأم لستة أبناء كل واحدٍ منهم له احتياجه ومتطلباته الحياتية والمدرسية.

مستفيدة: لا أمتلك الجرأة لتقديم الشكوى ضد الموظف الذي دفع زوجي، وحتى لو تجرأت، فأنا لا أمتلك الثقة بجدوى تلك الخطوة أصلًا

تقول: "لا أمتلك الجرأة لتقديم الشكوى ضد الموظف الذي دفع زوجي، وحتى لو تجرأت، فأنا لا أمتلك الثقة بجدوى تلك الخطوة أصلًا"، مشيرةً إلى أن زوجها عندما ذهب ليشتكي الموظف عند مدير الجمعية، فوجئ به يخبره بأن تصرف الموظف كان سليمًا، وأن لا خطأ عليه أبدًا".

يلاحظ العاملون في مؤسسة "فرسان العرب" العاملة في مجال المساعدات العينية منذ 12 عامًا، أن جل المتقدمين لاستلام المساعدة هن من النساء، عازين ذلك إلى ظن الناس أن "وجود امرأة، سيدفع للتعاطف معها بشكلٍ أكبر، أو حتى تسيير استلامها للمعونة بشكل أسرع".

وهذا ما يؤكده المدير التنفيذي للمؤسسة  مروان  الديراوي، معقبًا بالقول: "وهذا يفرض على العاملين الحذر أكثر في موضوع التعامل".

ويزيد: "أحيانًا نضطر للاستعانة بعمال -لا يتبعون المؤسسة- أثناء عملية التوزيع، وهنا يحدثُ أن يلقي أحدهم بكلمة غير لائقة لامرأة. في النهاية المؤسسة تتحمل المسؤولية، لكن ما أود تأكيده، أن المؤسسة لم تتلق شكاوى تتعلق بأي تجاوز مبني على النوع الاجتماعي طوال فترة عملها".

لا ينكر الديراوي أن هناك نساء يمكن أن يتعرّضن "بالفعل" للتنمر، والمضايقة، والمماطلة، والنظرة الدونية، والابتزاز الجنسي أيضًا

ولا ينكر الديراوي، أن هناك نساء يمكن أن يتعرّضن "بالفعل" للتنمر، والمضايقة، والمماطلة، والنظرة الدونية، والابتزاز الجنسي أيضًا  داخل بعض الجمعيات الخيرية.

وفي جمعية "الحياة والأمل" القريبة من حي الصفطاوي شمال مدينة غزة، تؤكد مسؤولة المتابعة والتقييم مريم المغاري، على أن الجمعية أنشأت قنوات عديدة لتقديم الشكاوى،  "وتصنفها وفق: بسيطة، ومعقدة، وحساسة".

وتقول: "الشكاوى الحساسة، هي التي يقع فيها الفساد المبني على النوع الاجتماعي، والاطلاع عليها يكون من اختصاص الإدارة فقط".

المغاري: ثقافة تقديم الشكوى من قبل النساء محدودة، "وهذا يرجع إلى خوفها من الوصمة، وخوفها من خذلان إدارة الجمعية في ذات الوقت

تضيف: "نسمع بوجود أنواع من الفساد الخاصة بالنوع الاجتماعي في مؤسسات أخرى، الاستغلال الجنسي على سبيل المثال، أو الحصول على الخدمة بمقابل ما، أو أخذ جزء من القسمية نفسها"، مشددةً على أن ثقافة تقديم الشكوى من قبل النساء محدودة، "وهذا يرجع إلى خوفها من الوصمة، وخوفها من خذلان إدارة الجمعية في ذات الوقت" تكمل.

و في مدينة دير البلح تحدثت "نوى" لمدير مجلس الإدارة في جمعية الصلاح الإسلامية خالد الشريف،  الذي أكد أن النساء -تحديدًا- لهم خصوصية بالتقدير والاحترام من قبل العاملين في الجمعية.

وقال: "يخضع موظفونا لدورات تأهيل  وتدريب تتعلق بأداء الموظف، ودوره، ومعاملته مع المستفيدين من المؤسسة"، مشيرًا إلى عدم وجود تصنيف للشكاوى التي تصلهم.

الشريف: في حال وصلت  أي شكوى يمكن التعامل معها بتسلسل، حتى تصل إلى أعلى جهة إدارية، ويتم التعامل معها بشكل مباشر وقانوني

وأضاف: "إطلاقًا، لم يحدث ان تلقينا شكاوى تتعلق بفساد يتعلق بالنوع الاجتماعي من قبل العاملين معنا عند تلقي الخدمات، لكن في حال وصلت  أي شكوى يمكن التعامل معها بتسلسل، حتى تصل إلى أعلى جهة إدارية، ويتم التعامل معها بشكل مباشر وقانوني".

أما في جمعية الوفاق لرعاية المرأة والطفل، بمدينة رفح، جنوب قطاع غزة، فتقول المديرة التنفيذية بثينة صبح: "في البداية لم يكن لدى النساء جرأة لتقديم شكاوى، لكن بعد أن أعلنت الجمعية  عن نظام  شكاوى  آمن، ووجود لجنة متخصصة للبحث فيها، أقدمت النساء على تقديم شكاوى لها علاقة  بالمساعدات، أو بتعدي أحد الموظفين لفظيًا أو بالتعامل ليس أكثر".

ترجع صبح اقتصار الشكاوى على "العادية"، إلى معرفة الناس ببعضها، وهذه الروابط الاجتماعية، والعادات، تشكل رادعًا كبيرًا لدى من تسول له نفسه أن يتعدّى حدوده

وترجع صبح اقتصار الشكاوى على "العادية"، إلى معرفة الناس ببعضها البعض بشكل كبير في مناطق جنوب القطاع، وهذه الروابط الاجتماعية، والعادات،  تشكل رادعًا كبيرًا لدى من تسول له نفسه أن يتعدى.

وبرغم ما سبق، لا تنفى صبح  وجود سيدات تعرضن لهذا النوع من الفساد،  دون أن يقدمن على خطوة الشكوى، "ذلك لاعتقادهن  أنه من السهل أن ينكر المشتكى عليه فعلته،  بل قد يقلب الأمر ضدها فتجد صعوبة في إثبات شهادتها".

كذلك –حسب صبح– تخاف النساء من شكاوى الفساد المتعلقة بالنوع الاجتماعي بسبب  الوصمة والفضيحة التي تلحق بهن، "فقد شهدتُ  قصصًا لنساءٍ تعرضن للتحرش  أو الاعتداءات الجنسية في محيطي،  وبرغم الضمانات التي وفرت  لهن تراجعن عن السماح للجهات المختصة بالتدخل.

مخاطر كبيرة

ويضع العاملون في مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة صندوقًا أمام باب مقرهم،  وبرغم ما يحتويه من شكاوى مختلفة، "لم يحدث أن كان بينها شكوى واحدة تتعلق بالفساد المبني على النوع الاجتماعي طوال سنواتٍ مضت" وفقا لمديرته زينت الغنيمي.

ومع ذلك، لا تنكر أنها سمعت بوجود حالات ابتزاز جنسي –مثلًا- حدثت من قِبل عاملين في الجمعيات الخيرية التي تقدم دعمًا ماديًا "لكن لم يتم التحقق منها" تقول.

الغنيمي: ليس من صلاحياتنا حسب  النظام القانوني العام في البلاد، أو بروتوكولات العمل الأهلي أن نتبنى قضية دون تقديم شكوى

وتكمل: "طالما لم يصلنا شكوى رسمية؛ لا نستطيع التدخل، ليس من صلاحياتنا حسب  النظام القانوني العام في البلاد، أو بروتوكولات العمل الأهلي أن نتبنى قضية دون تقديم شكوى".

وتشير إلى أن سبب الإحجام عن هذا النوع من الشكاوى، يرجع إلى خوف السيدة التي تعرضت لواقعة فساد، من عدم قدرتها على مواجهة مؤسسة أهلية، أو دولية، بالدرجة الأولى.

ورفضت وزارة التنمية الاجتماعية بغزة، التي تقع على عاتقها مسؤولية الرقابة والحماية والمساءلة لمقدمي الخدمات، ومنهم الجمعيات الخيرية، الحديث عن القضية بعد تواصلٍ حثيث، في حين أكد أيمن عايش الذي يرأس إدارة الشؤون العامة، والمنظمات غير الحكومية‏ لدى ‏وزارة الداخلية الفلسطينية بغزة، أن إدارته لم تتلقَّ أي شكاوى تتعلق بالفساد المبني على النوع الاجتماعي ضد أيٍ من العاملين في الجمعيات الخيرية بغزة.

ويُرجع عايش تردد النساء عن التبليغ، لحساسية الشكوى نفسها، "إذ من الصعب  تقديم دليل على وقوعها كون السيدة تأخذ خدمتها وتذهب".

عايش: البيئة هنا صارمة إلى حد كبير،  والكلفة الاجتماعية عالية جدًا. وهناك بنية فنية وإدارية في المؤسسات الأهلية  لا تسمح بوقوع هذا النوع من الفساد بشكل واسع

ويكمل: "كذلك لنوع الفساد  دور، فالسيدة التي تتعرض  لتحرشٍ أو ابتزاز، من الصعب أن تتحدث عنه بسبب طبيعة المجتمع المحافظ، وكذلك هناك مسألة  التباين في التعريفات والتوصيفات للحدث من منظور معايير المجتمع"، معقبًا بقوله: "البيئة هنا صارمة إلى حد كبير،  والكلفة الاجتماعية عالية جدًا. من جانبٍ آخر  هناك بنية فنية وإدارية في المؤسسات الأهلية،  لا تسمح بوقوع هذا النوع من الفساد بشكل واسع".

جهود متواصلة

وينبه الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، إلى أهمية العمل على إيجاد إجراءات معينة تعالج ضعف الاستجابة المبنية على مراعاة النوع الاجتماعي، خاصةً وأن  استطلاعات الرأي التي أصدرها  الائتلاف، أظهرت أن  الواسطة والمحسوبية والمحاباة هي أكثر أشكال الفساد التي يتعرض لها المواطنون عند تلقيهم  الخدمات العامة.

وتنوه منسقة المناصرة والمساءلة المجتمعية في "أمان" مروة أبو عودة، إلى أن  السبب الرئيس في إعاقة التبليغ عن الفساد المبني على النوع الاجتماعي، يعود إلى ضعف الوعي لدى الفئات المستهدفة  في المناطق المهمشة، إذ أن  المؤسسات لا تفصح عن السياسة التي تتبعها في إدارة عملية المساعدات الإنسانية ومن ضمنها وجود برنامج شكاوى.

أبو عودة: ما يزال المواطنون يعتقدون أن الإبلاغ عن الفساد يأخذ شكل الوشاية، كما أنهم لا  يثقون بوجود قانون يحمي المبلغين عن الفساد، ولا يوجد  في قطاع غزة نظام لحماية المبلغين عن الفساد

 وتضيف: "ما يزال المواطنون يعتقدون أن الإبلاغ عن الفساد يأخذ شكل الوشاية، كما أنهم لا  يثقون بوجود قانون يحمي المبلغين عن الفساد، ولا يوجد  في قطاع غزة نظام لحماية المبلغين عن الفساد"، متابعةً بالقول: "وبالفعل، في قطاع غزة  لم تصدر أي  جهة رسمية أي مصوغ قانوني يعزز حماية المبلغين عن الفساد أصلًا".

و تستدرك: "لكن ما زالت النساء تفتقد  الجرأة الكافية للتبليغ عن وجود أي شبهات، وذلك يرتبط بكونهن نساء"، مشيرةً إلى مخاطر عدم معالجة قضايا الفساد المتعلق بالنوع الاجتماعي، أسوةً بكل أشكال الفساد الأخرى، والتي يقف على رأس قامتها "الخوف من أن يتحول أمر هذا الفساد إلى ظاهرة تنخر جسد المجتمع" تختم.