للمرّة الأولى.. سافَرْت!
تاريخ النشر : 2022-01-06 09:35

قطاع غزة | نوى:

لطالما تساءلت: "كيف يبدو لون السماء خارج غزة؟".. شاهدتُهُ أخيرًا! كان أزرقًا ممتدًا عن ذات السماء في غزة، صافيًا كأنما لم تزره طائرة F16 من قبل!

نعم.. بعد 31 عامًا من ولادتي أنا هنا، بعيدةٌ عن حدود النار والبارود، وأصوات الطائرات الحربية، وأسلاك "إسرائيل" الشائكة، أنا أعبر أرض الله الواسعة باتجاه الشمس التي لطالما غطّتها عندنا أدخنة الصواريخ المنهمرة فوق رؤوس الأبرياء.. أنا هنا ضيفةُ "الحرية".

لأول مرةٍ أرى السماء فوق رأسي واسعة! كانت تشبه تمامًا ذلك الحزن الذي ضرب قلبي وأنا أشاهد "غزة" تبتعد. الأيام مرّت بسرعة، وعُدت.. لكن الذاكرة ما زالت تشعُّ دهشةً.. فرحًا، بنور التجربة ونارها. 

أسئلةٌ كثيرةٌ أرسلها إلي أصدقاء لم يعيشوا التجربة، كان أكثرها إرهاقًا لقلبي: "شو أول شي حسيتيه لما طلعتي من غزة؟" في كل مرةٍ كنتُ أتلعثم ولا أجد إجابةً تعبّر! صدقًا كان من الصعب أن أجد توصيفًا يحكي فرحي لأنني خرجت من "قمقم" الأحداث والتوتر، وحزني لأنني بعيدةٌ عن قعر القلب "غزة"!

طريقٌ طويلةٌ استغرق عبورها نحو ١٢ ساعة، عبرتها أنا، وأنا التي عشت طيلة عمري لم يستغرق أطول مشوارٍ سافرته في غزة أكثر من ساعتين بالسيارة!

كنتُ كمتهمٍ قضى حكمًا ظالمًا بالسجن (31 عامًا) ثم اكتشف العالم براءته. الحرية بعد حبسٍ متعبة. حقًا، في اللحظات الأولى من فك القيد يقهرك شعورك بالظلم، ثم تغرق بالذنب لأنك نجوت بينما الكثير من المظلومين خلفك ينظرون يشيرون إليك من بعيد ويشتهون اللحاق بك.

لم يبرحني الشعور بالإثم لأني سافرت للمرة الأولى، وخلفي الآلاف يعيشون قصتي هذه. قصة الحصار والعيش في السجن، وفي مساحةٍ ضيقة يظن سكانها أنهم محور الكون. لا يا "محور الكون"، هذا العالم لا يعرفنا خارج حدودنا.. وهذه أول صدمة!

خارج غزة يسمعون بأقل القليل عن قصصنا حين نغرق بدمائنا في جولات التصعيد. يشاهدوننا صدفة عبر شاشة تلفازٍ في إحدى المقاهي الشعبية، أو في منشوراتٍ تمر أمامهم عبر مواقع التواصل. 

طريقٌ طويلةٌ استغرق عبورها نحو ١٢ ساعة، عبرتها أنا، وأنا التي عشت طيلة عمري لم يستغرق أطول مشوارٍ سافرته في غزة أكثر من ساعتين بالسيارة! زميلاتي منى وشيرين وإسلام وأمنية وميسون مرافقات لي في رحلةٍ قدّمتها لنا مؤسستنا "فلسطينيات" كنوعٍ من الرعاية النفسية بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/ آيار الماضي.

ستُّ فتيات في باصٍ مهترئ نقلنا من المعبر إلى القاهرة، قاده سائقٌ يُدعى "أبو أحمد"، أخذنا بعيدًا جدًا بحسّه الفكاهي، وأنسانا آلام ظهورنا من الجلوس المتعب على الكراسي، وتلك الرضوض التي تسببت بها الطرق غير المعبدة، برغم انزعاجه من سؤالنا المتكرر له (في الساعة مرتين: "كم تبقى من الوقت لنصل القاهرة؟").

الطريق بين غزة والقاهرة ليست كأي واحدة في العالم، قاسية ببرودة صحراء سيناء التي شاهدتها للمرة الأولى أيضًا. فأنا ابنة البحر لم أعرف سواه من الطبيعة. لم أرَ جبلًا، ولا نهرًا، ولا ينبوع ماء، ولا صحراء، ولا سهول، ولا مساحات خضراء شاسعة كتلك التي نشاهدها في قناة ناشونال جيوغرافيك.

ما أن وصلنا الإسماعيلية، ثم القاهرة، حتى لمعت عينياي انبهارًا! "يا رباه، ما كل هذه الأضواء؟"، "ما كل هذه السيارات؟". الساعة تشير إلى منتصف الليل، والشوارع تعجُّ بالمارة، وأما نحن فتنام مدينتنا عند العاشرة مساءً مع انقطاع التيار الكهربائي.

نعم.. نحن الذين تسري حياتنا وفق جدول الكهرباء. ثماني ساعاتٍ من الوصل نتحول خلالها إلى خلية نحل لإنجاز الطبخ، والغسيل، والكوي، وشحن الأجهزة الكهربائية، و"ليدات" الإنارة، تتلوها ثمانيةٌ من العتمة.. فيها لا نسمع صدىً سوى لأصواتٍ تلعن.. الكهرباء، والساسة، والاحتلال، والحصار، وأوضاع المعيشة أيضًا.

قصة الحصار والعيش في السجن، وفي مساحةٍ ضيقة يظن سكانها أنهم محور الكون. لا يا "محور الكون"، هذا العالم لا يعرفنا خارج حدودنا.. وهذه أول صدمة!

حكايتي مع السفر ليست شخصية، إنها حكاية جيلٍ كاملٍ يعاني جراحًا وأوجاعًا وأحلامًا مبتورة، أبطالها شبان، شاخوا قبل أوانهم، هذا ما كنت أفكر فيه عندما وضعت رأسي على المخدة كي أنام، أما الحلم، فكان عقلي الباطن يصوغه كما عايشته في رحلةٍ صعبة.. من الموت إلى الحياة مرةً واحدة.

في صالة المعبر رأيتُ ثلاثة شبانٍ لم يتجاوزوا العشرين من أعمارهم. قالوا: إنهم يريدون السفر كمحاولة أخيرة للنجاة من ظروف بلادنا، لأنه "ما ضل اشي في عمرنا، كله راح مجانًا في بلد فش فيها أمل". دوّت أصواتهم في رأسي، ورأيت ليلتها شريط ذكرياتٍ مخضبٍ بدمائنا النبيلة، تلك التي لا يمكن أن توقف نزفها ضمادات العالم. بكيتُ واستسلمت للنوم هربًا من الوحشة، أمنّي نفسي بالعودة قريبًا.. إلى غزة، حيث سماء الحب في عينَي طفلي عُمر، والأمان على كتف زوجي أنس! 

"أهذا هو السفر الذي يقولون عنه ممتعًا؟ الله يسوّد وجوهكم يا كذابين" وعلى هذه العبارة استيقظت ولساني يرددها وأنا أبكي الشوق، والأسى أيضًا، "في الحقيقة نحن لا يمكن أن نستمتع بفرصة الفرح إلا وحولنا من نحب".

سرت في شوارعها، وتأملت نيلها وناسها الطيبين، وزرت وسط البلد، وجلستُ في مقاهيها، وفرحتُ جدًا عندما اشتريت خط هاتفٍ مصري، وعرفت ماذا يعني أن أتمتع بحزمة إنترنت 4G. "حتى هذه يحرمنا الاحتلال منها، وبالكاد نحصل على 2G" تخيلوا!

حكايتي مع السفر ليست شخصية، إنها حكاية جيلٍ كاملٍ يعاني جراحًا وأوجاعًا وأحلامًا مبتورة، أبطالها شبان، شاخوا قبل أوانهم

وبالطبع لن أنسى طعم بعض المأكولات "العالمية" التي يحلم الفلسطينيون في غزة بتذوقها، وأشهرها "ماكدونالدز وKFC"، التي يحاصرنا الاحتلال منها. وأظن أنني حزنت لعدم معرفة العالم، ببعض مطاعم غزة، التي تُقدّمُ أشهى من هذه المأكولات مئة مرّة.

وكان للطائرة قصةٌ أخرى.. شاهدتُها للمرة الأولى على شكل طائرة مدنية. تنقل الناس للاستمتاع وقضاء حاجاتهم، بخلاف تجربتنا مع الطائرات في غزة، تلك التي تمطرنا بالصواريخ. بل ترصدنا فرائس سهلة، لتجريب كل إصداراتها الجديدة من الأسلحة الحربية. "وهنا المطار عالمٌ بمفرد"، شعرته بمساحة المدينة التي احتوت قلبي ثلاثة عقودٍ ونيف.. الانتظار كان ممتعًا، وروحي مرهقة بالدموع. "ما الذي أعيشه؟ أين نحن من هذا الكون؟ ومن هذا العالم؟ ومن بين هؤلاء الناس؟ أين نحن من الطبيعة؟ أين العدل يا الله؟" تساءلت.

ركبتُ الطائرة! أخيرًا.. للوهلة الأولى شعرتُ أنني في مدينة ملاهي، أركبُ لعبةً كتلك التي عاصرتها في غزة. وصدقوني لو قلت إنني خشيتُ لحظتها أن تتوقف، أو تلقي بنا جميعًا أرضًا لاهترائها، أو قلة صيانتها. لكن بعد أن حلقتُ عاليًا، وضعتُ نفسي مكان الجنود: كيف يتلذذ أحدهم بإرسال صاروخٍ يعلم أنه سيطحن تحته الضحكات والأحلام؟ كيف يمكن أن نقتل أناسًا يشتهون "الحياة"  بضغطة زرٍ.. من هنا، من أعلى.. لمجرد أننا أُمرنا بذلك؟ 

زرتُ الأقصر، وأسوان، بجمالهما الخلّاب، وتعرّفتُ على القرية النوبية، وعلى كثيرٍ من المعابد الفرعونية القديمة. عشت في النيل يومين متواصلين على متن مركبٍ بحري. واختياري لكلمة "عيش" لأن هذين اليومين كانا بمثابة عمرٍ كاملٍ من حياتي، لم أتخيل أن أعيشه..

للمرة الأولى، شاهدت أناسًا من جنسياتٍ عديدة ومختلفة، تتجمع في مكانٍ واحدٍ بشكلٍ طبيعي. أما نحن، فيتجمعون بيننا في فترات العدوان على غزة، يروننا مادةً صحفية، وأسرابًا ننزح من مكانٍ إلى آخر للاحتماء من قذائف الموت العشوائية، دون جدوى.

شاهدتُ المعبر. شاهدتُ مساحاتٍ خضراء واسعة. شاهدتُ النيل. مكثت في غرفةٍ فندقية على الطابق الـ ٢٥، وكان هذا أعلى مكان أقف فيه في حياتي قبل أن أركب الطائرة. شاهدتُ الصحراء، وأول بلدٍ غير بلدي التي لم أعرف منها غير "غزة" بالحقيقة.

نحن المعذبون خلف أسوار حصارنا. نحن صوتٌ لكثيرٍ من القصص التي لم تُروَ، ويحاول الاحتلال إخمادها

نحن المعذبون خلف أسوار حصارنا. نحن صوتٌ لكثيرٍ من القصص التي لم تُروَ، ويحاول الاحتلال إخمادها، مثقلون بالأوجاع، وذكريات الموت، التي ترفض الانفصال عنا، ونرفض نحن الانفصال عنها.

أنا متعبة. كتبتُ بتعبٍ وتألمت، تمنيت لو أبكي ولم يحدث. نحن ميّتون بعمر الورد. وأيُّ حياةٍ هذه التي ندّعي عيشها، وأطفالنا يتناقشون فيها بأي طريقةٍ سيموتون؟! لا سفر، ولا مئة محاولة للنجاة بالبُعد ستعوّضُ أعمارَنا، وذلك السلام الداخلي، والراحة التي نريد.