جولةٌ في 85 مترًا "من الأسى" بمخيم الشاطئ
تاريخ النشر : 2021-11-10 13:43

غزة:

أشارت بأصابعها نحو سقف بيتها الكائن بمخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، وقالت بصوتٍ يرتعش: "نموت من الحر صيفًا، ونتجمد من البرد شتاءً، وتحت القصف نخشى أن يسقط الأسبست فوق رؤوسنا فيقتلنا جميعًا".

اللاجئة سناء القوقا (45 عامًا) وصفت حال بيتها –الذي يشبه بتفاصيل مكوناته معظم بيوت اللاجئين- ليس فقط في مخيم الشاطئ، بل في كافة مخيمات القطاع.

تشققات الجدران وأسقف الزينكو والأسبست، والأزقة الضيقة المكتظة بأصوات الصغار، وتلك النوافذ التي يطل أهلها على الحياة من قلب الضيق، فلا ترى في عيونهم إلا الحب والتسامح والأخوة.

في بيتها الذي لا تزيد مساحته على 85 مترًا، تقف سناء، ثم تضرب بيدها على الحائط وتقول: "اسمعوا، حتى قصارة البيت تتساقط عن جدرانه".

سناء المكنّاة بـأم بكر -أمٌ لعشرة أبناء- هي واحدة من أكثر من 85 ألف نسمة يعيشون في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين، الذي يضمُّ كلَّ هذا العدد على مساحةٍ لا تتجاوز كيلو مترًا واحدًا في بيوتٍ شديدة الضيق، يعانون غياب الرعاية والاهتمام، وتهالك البنية التحتية، ما انعكس سلبًا على معيشتهم وصحتهم.

تضيف سناء التي ولدت في المخيم، وتزوجت فيه: "كل حياتنا صعبة، بدءًا من ضيق البيوت و فرفطة الروح بسبب الحر الشديد، وانقطاع التيار الكهربائي اليومي، وصولًا إلى الفقر وملوحة المياه والإهمال"، متساءلة باستنكار: "هل من المطلوب منا التعايش أبدًا مع هذا الواقع؟".

تشير سناء إلى المغسلة المتكلّسة بسبب ملوحة المياه، وكذلك البلاط، وهنا تعقب: "هذا ما فعلته المياه بالبيت، تخيلوا أن أبناءنا يستحمون في هذه المياه، مياه الشرب نشتريها كل أسبوعين وبثمن مرتفع، وكثيرًا ما نضطر إلى استخدامها للاستحمام بسبب الملوحة الشديدة".

في أزقة شوارع المخيم شديدة الضيق، من الطبيعي أن تشاهد حبال الغسيل على جانبي الزقاق، وعاديّ أيضًا أن يلعب الأطفال بين هذه المساحات الصغيرة نظرًا لعدم توفّر أماكن واسعة للعب، سوى متنزه بعيد المسافة، تخاف النساء عادة من إرسال أطفالهن إليه، لخشيتهن عليهم أثناء قطع الطريق العام بين المخيم والمتنزّه، فيفضلن لعبهم أمام الباب كما تفعل سناء "هنا لن يبتعدوا كثيرًا فنحن نعرف المكان والناس".

تستيقظ سناء منذ ساعات الفجر الأولى لتحضّر أطفالها للذهاب إلى المدرسة، وتكون محظوظةً إذا أكرمتها شركة الكهرباء بساعات وصل في ذلك الحين، أما إذا استيقظت فوجدتها مقطوعة، فعليها الاعتماد على ضوء جوالها إن كان مشحونًا، أو البحث على العتمة عن أشيائها التي تحفظ أماكنها.

أما الشتاء فهو قصة أخرى -وفقًا لسناء- فالبيوت تغرق وتضطر لوضع أواني الطبخ وسط البيت علّها تستوعب مياه الأمطار التي تتسرب عبر فتحات الأسبست المتهالك، أما العائلة فهي "تنحشر" على حد وصفها في غرفةٍ واحدة، لا تخلو من أجواء الضحك والمرح العائلية رغم ضيق الحال.

الأقسى بالنسبة للسيدة التي عايشت أيضًا تجربة الحجر بسبب جائحة كورونا وسط هذا الواقع؛ هو معاناة ابنتها مريم "17 عامًا" التي أصيبت بفشل كلوي قبل عشر سنوات، ما اضطرها إلى التوقّف منذ عامين عن الذهاب للمدرسة بسبب عدم تفهم المدرسات للاحتياجات المختلفة للطفلة، الناتجة عن وضعها الصحي.

زوجها جابر القوقا "أبو بكر"، يقول لـ "نوى": "صارت بيوت المخيمات على ثلاثة أوجه، القسم الأول من أصحابها تمكنوا من إجراء التصليحات في بيوتهم، وتحسينها بما يتناسب مع متطلبات الحياة، أما الثاني فأصلحت لهم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بيوتهم نسبيًا، والبقية وأنا منهم، بقي بيتي على حاله دون أي تأهيل منذ أكثر من خمسين عامًا".

يشير إلى أعلى السقف ويقول: "هذا الأسبست عمره 50 عامًا، يتلف بفعل العوامل الطبيعية، العالم كله لم يعد يستخدمه"، ثم يشير إلى شبابيك البيت ويعقب: "حتى هذه الشبابيك الخشبية القديمة لم تعد موجودة أبدًا سوى في بيوتنا القديمة، التي لا ينظر لحالها أحد".

ولا تستغربوا –يتابع الرجل- إن غرق البيت فجأةً بمياه الصرف الصحي القادمة مثلًا من المطبخ؛ فالبنية التحتية غير مؤهلة بعد، قائلًا: "وبالرغم من أننا دخلنا الألفية الثالثة إلا أن البيوت هنا تغرق شتاءً ولا أحد يهتم، نضطر لاصطحاب سباك يصلحها وندفع له مبلغًا نقطعه من مخصصات طعام العائلة".

لا يقتنع أبو بكر بأن هناك شفافية وعدالة في التعامل مع الجميع، فهناك من حصلوا على فرصة لبعض التأهيل في بيوتهم، ويتساءل بحنق: "لماذا لم أحصل عليها أنا؟ هل يتدخل اللوبي الصهيوني في تحديد الأسماء؟".

يعمل أبو بكر موظفًا حكوميًا -درجة سابعة- براتب ضعيف جدًا، وحاليًا هو صيّاد، أما الدخل الذي يحصله فمحدودٌ جدًا في ظل ظروفٍ تحتاج إلى الكثير من النفقات. "لكنني أتعفف عن طلب أي مساعدة رغم احتياجي الشديد لها، فلا يوجد مسؤول منطقة لا يعلم ظروف كل عائلة فيها، لست مستعدًا لطرق باب أحد، هذا والله شعور مميت" يزيد.

وفي منطقة مثل قطاع غزة التي يزيد عدد سكانها عن 2 مليون إنسان، ويعيشون على بقعة مساحتها 365 كيلومترًا، يبدو قاسيًا أن تزيد نسبة البطالة على 54%، والفقر على 74%، حيث يرى أبو جابر أن بلدنا باتت مقسّمة إلى فئتين فقط: من يمتلكون كل شيء، ومن لا يمتلكون شيئًا، "أما الطبقة الوسطى فاختفت" يردف.

يقول متهكمًا: "في هكذا وضع نحتاج 250عامًا كي ندخّر ثمن إصلاح البيت، بتكون عظامنا صارت مكاحل، بيت قديم متهالك ضيق، ماذا لو فكرت في تزويج ابني البالغ 19 عامًا؟ أزوجه في هذه الغرفة أم في غرفتي؟".

يشير أبو بكر إلى الشقوق في الجدران قائلًا: "لا تنخدعوا ببعض التغيرات التي حدثت على المخيمات في الثلاثين عامًا الأخيرة؛ البنية التحتية صفر وحتى أسلاك الكهرباء وكوابل الإنترنت كلها فوق سطح الأرض وليست في باطنها كما كل العالم"، يسخر مرة أخرى ويقول: "تذكروا أننا نعيش في العام 2021م.

الأقسى أيضًا، هو انقطاع مخصص الشؤون الاجتماعية الذي استفادت منه مريم لعام واحد فقط بحجة أن والدها موظف، مع أن راتبه لا يكفي للإنفاق على العائلة، فما بالنا باحتياجات خاصة لطفلة مصابة بفشل كلوي تحتاج غسيل كلى وتغذية خاصة وأدوية مكلفة.

يجزم أبو بكر أنه قادر على التعايش مع كل هذا الواقع القاسي، لكن ما يؤرقه هو الوضع الصحي لطفلته مريم التي تحتاج إلى عملية زرع كلى تتكلف الكثير من المال لا يمكن للعائلة توفيره.

ما أن ينقضي الصيف بنفخ ناره، حتى يتسلّم الشتاء القارص الناس ببرده وزمهريره مهمة العذاب، فبيوت الاسبست في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة ضاقت على سكانها، مع أنها اتسعت لقلوبهم العامرة بالحب.

عائلة القوقا هي واحدة من مئات آلاف العائلات الفلسطينية التي تتوزع على ثمانية مخيمات في قطاع غزة، يعتبر مخيم الشاطىء الثالث من حيث عدد السكان، وكلها تعاني الاكتظاظ وسوء الرعاية، ورغم أن الأهالي ملّوا الصحافة إلا أن صرخة أخرى ربما تجد من يسمعها.