عن "العادي" "المُبهِر" في حكايا قادري والعارضة
تاريخ النشر : 2021-09-16 14:18

غزة:

"قضيت خمسة أيام في الهواء الطلق، كانت الأجمل في حياتي. رأيتُ أطفالًا في الشارع، اقتربتُ منهم وقبّلتُ أحدهم"، بساطة هذه المشاهد لم تستطع أن تخفي بين الثنايا "شغفًا للحرية" كان يحمله يعقوب قادري في قلبه 19 عامًا قضاها خلف قضبان المحتل.

في بقعةٍ موحشةٍ من زنزانته الرطبة في جلبوع، لطالما سأل نفسه عن الحياة خلف تلك الأسلاك الشائكة كيف باتت تبدو؟! وجاءته الإجابة –بسيطةً كضحكة طفلٍ رآه وقبّله- بعد فرار.

قادري، هو واحدٌ من ستة أسرى فلسطينيين تمكّنوا من تحرير أنفسهم يوم السادس من سبتمر/ أيلول الجاري، عبر نفقٍ حفروه في حمام السجن، ليعاد اعتقال 4 منهم، هم بالإضافة إلى يعقوب، محمود العارضة، وابن عمه محمد، وزكريا زبيدي، ليبقى أيهمم كممجي، ومناضل انفيعات حُرين حتى اللحظة.

قادري بدأ يسرد ما رآه خارج السجن –خلال أيام الحرية الخمسة- لمحاميته حنان الخطيب، التي تمكنت من زيارته مساء أمس الأول مبتسمًا، كلّها بدت من أبسط ما يمكن أن يمر على المرء في يومه، إلا أنها بدت عميقةً بعمق جرح الاعتقال على لسانه، "حياةً مختلفة" عن تلك "الأخرى" في غرف التحقيق والزنازين العفنة، والبوسطة، والكنتين، وضحكات السجّان المُرة.

الأسير محمد العارضة، أيضًا أُعيد اعتقاله، لكنه سجّل مشاهد بعد اعتقال 22 عامًا، لا يمكن لأحد أن يكترث لها، أو أن يعدّها تجربةً من العمر. تخيّلوا: قال لمحاميه خالد محاجنة الذي زاره مساء أمس الأول أيضًا: إنه تجوّل في البلاد، وأكل الصبر –التين الشوكي- لأول مرة منذ أن اعتقل قبل أكثر من عقدين!

تلك التفاصيل على بساطتها، أعادت الأسيرات والأسرى المحررين، إلى جرحٍ عجزت الأيام عن تطبيبه. كان منهم فاطمة الزق.

تنهدت فاطمة بعمق، وهي تستمع لما نقله المحامون عن الأسرى، وقالت لـ "نوى": "شعرت بكل كلمة ووجع شعروا به، جرّبت الحرمان من هذه الأمور البسيطة التي تعني الكثير داخل السجون".

لدى اعتقالها عام 2009م، اكتشفت الأسيرة الفلسطينية -وهي من حي الشجاعية شرق مدينة غزة- أنها حامل، وكأي امرأةٍ شعرت برغبةٍ في تذوّق ليمونةٍ وبعض الفلفل الأخضر، لكنها حُرمت منها تمامًا "فالاحتلال لا يسمح بإدخال إلا أشياء محدودة للأسيرات والأسرى، لم يكن من بينها الليمون والفلفل" تضيف.

الأسيرة التي كانت تقضي محكوميةً عالية، وتحررت بعد ثلاث سنوات ضمن صفقة وفاء الأحرار التي أنجزتها المقاومة الفلسطينية عام 2011م، مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي كان أسيرًا لديها في القطاع منذ عام 2008.

تكمل الزق: "مثلًا الملوخية وهي أكلة يحبها الفلسطينيون كثيرًا، نحرم منها داخل الزنازين، ومن الخيال أن نفكر بأكل السمك في فلسطين التي تجاور البحر، تخيلوا!"، راويةً عن إحدى الأسيرات موقف، "عندما اشتهت ذات مرة طبقًا من الكنافة، وبالطبع ليس من المسموح إدخالها بأمر الاحتلال، وهنا ما كان مني إلا أن اشتريتُ جبنةً بيضاء، ووضعتها في الماء عدة أيام حتى فقدت ملوحتها، ثم أتيت بشعيرية الأرز الناعمة، وحمّصتُها على النار، ووضعتها على طبقتين وبينهما الجبن الحلو، ثم أتممتُ العمل بإضافة السمن والقطر، وفاجأتُها بطبقٍ من الكنافة، الذي تحوّل إلى حفلة في السجن".

عندما وضعت فاطمة مولودها يوسُف، تحوّل السجن إلى صالة عرس، فيوسف غيّر حياة الأسيرات كلّهن، كل شيء جديد يدخل السجن هو مهم، فما بالكم عندما يكون هذا الشيء طفل! "كن يتسابقن لحمله والاهتمام به واللعب معه" تقول.

تصمتُ قليلًا، ثم تكمل: "ليس يوسف فحسب، بل إن عصفورًا دخل السجن ذات مرة، تسابقت الأسيرات إليه لرؤيته، وكثيرًا ما قمنا بتفتيت الخبز في ساحات السجون علّه يكون دليلًا لأي عصفور أو طير، لنراه فيغيّر روتين السجن القاسي"، بالإشارة إلى أن السجون موجودة في الصحراء، ولا يحيط بها الناس ولا حتى الأشجار، ولا أي كائناتٍ حية.

أما رؤية القمر والشمس مكتملين دون قضبان فكان "في أحلامنا فقط"، حتى أن يوسف بعد تحرره، صرخ حينما رأى الشمس ساطعة. "لقد تغير عليه الجو، وصدم بعدما رأى كل تلك المساحات الواسعة".

وذات مرة –تروي الزق- دخلت قطة إلى السجن، فتسابقت الأسيرات للاعتناء بها، "الأجمل أنها كانت حاملًا، وقد اهتمت بها الأسيرة قاهرة السعدي، حتى باتت شغلها الشاغل، ومعها يوسف أيضًا"، معقبة بأسى: "للأسف بعد ولادتها توفيت، وهذا أثار حالةً من الحزن الشديد داخل الزنزانة، لقد حاولت الأسيرات آنذاك، التعويض بصغارها".

وختمت:" أشعر بعِظَم ما قاله الأسيران محمد العارضة، ويعقوب قادري، عشنا هذه اللحظات وندرك صعوبتها كثيرًا".

أما الأسير المحرر رامي عنبر، الذي تحرر من سجون الاحتلال العام الماضي بعد قضائه 18 عامًا، فقال بعدما قرأ أحاديث الأسيرين عن طعم الحرية: "أشعر بهما، قيمة تلك الأشياء تشبه الحلم في كثير من الأحيان".

ويكمل: "كان معي أسير يقضي حكمًا عاليًا، أكثر أمنية تمناها أن يتمكّن من السير لمسافة 500 مترًا دون أن يضطر للانعطاف والعودة من جديد"، مضيفًا: "بالنسبة لي كنت أفتقد كثيرًا مرافقة طفلتي ريم إلى الروضة والمدرسة، اعتقلني الاحتلال وهي جنين في بطن أمها، ومرّت المراحل الدراسية وهي بعيدة عني، عندما تحررتُ كانت في الثانوية العامة، وكان عليّ استثمار بضعة أشهر لها في المدرسة، لتعويض ما تمنيته 18عامًا متواصلة".

لجأ الأسير عنبر إلى مرافقة ابنته يوميًا صوب مدرستها، ورغم امتلاكه سيارة إلا أنه كان يختار الذهاب معها سيرًا على الأقدام مرورًا بعدة شوارع، وليس صوب المدرسة مباشرة.

ويعقّب بمرارة: "أردت قضاء أطول مدة زمنية ممكنة في مرافقتها للمدرسة لتعويض كل تلك السنوات، حتى أنني كنت ألتقط لنا صورًا ومقاطع فيديو لتوثيق هذه اللحظات صوتًا وصورة".

فالأسرى -يوضح عنبر– يعيشون على الذاكرة التخيلية، خاصة من يقضون حكمًا عاليًا، يستثمرون أوقات الفراغ في تخيّل الأشياء التي يحبونها، والأماكن التي يرغبون في زيارتها.

قطاع غزة يجاور البحر لكنه بالنسبة للأسرى جزء من عالم الخيال، شاطئ البحر، ورماله، والخيام البسيطة على شاطئه، والمظلات، كلها أمور يعيشها الأسرى حين يسرحون بخيالهم فقط.

الحياة تغيّرت كثيرًا بالنسبة لمن يقضون محكوميات عالية، ظهر الإنترنت، وظهرت الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، بعض الأسرى عرفوا بها وآخرون تخيلوها، حتى الازدحام السكاني والمباني التي ملأت كل مكان، كلها ظلّت في إطار معلومات يعرف بها الأسرى ويحاولون تخيّل كيف أصبحت.

يوضح ذلك بقوله: "مهما اتسع خيالنا، هناك أمور يصعب علينا رسمها في عقولنا، نُفاجأ بها عند التحرر، فمثلًا الكثافة السكانية على مدار 18 عامًا في قطاع غزة تغيّرت تمامًا، ورغم معرفتي بذلك داخل السجن، إلا أنني لم أتمكن من تخيل أنه وصل لهذا الشكل حقًا".

يضيف: "ثلاثة حروب مرّت على قطاع غزة، كنا نسمع أخبارها عبر الراديو، وهذا العام، لأول مرة أجرّب شعور الحرب خلال عدوان آيار/ مايو الفائت، الأمر مرعب، وكثافة القصف قاسية، لكن مثلما صمدنا هناك دومًا، سنواصل الصمود خارج السجن أيضًا".

مشاهدة السماء والشمس والقمر بلا قضبان، أمانٍ كبيرة بالنسبة للأسرى، فالشباك الحديدية تحيط بكل جزء من أجزاء السجن، حتى بدت كأنها لصيقة بعيون الأسيرات، والأسرى.

يقول عنبر: "رؤية الشمس والقمر والعصافير والطيور التي تمرّ في السماء، كانت أحلامًا، نحن لا نراها، حتى وإن مرّت، فنلمحها من بعيد، وعبر القضبان والأسلاك المتزاحمة فقط، التي يريد الاحتلال من خلالها إشعارنا أنه يحيط بنا من كل جانب".

محمود ومحمد العارضة، زكريا الزبيدي، ويعقوب قادري، أربعة أسرى عاشوا لخمسة أيام فقط، تجربةً مختلفة تمامًا عن تلك "اللوحة الكئيبة" التي حصروا بداخلها داخل السجون -يختم عنبر- معربًا عن أمله في أن يأتي اليوم الذي يرى فيه كل الأسرى خارج سجون الاحتلال، يلمسون الأرض الفسيحة بأقدامهم، ويروون عطشهم للحرية برؤية الحياة كما هي حقًا خلف تلك القضبان.