مهندسو المتفجّرات.. ووداعٌ "مُرّ" في فم الصباح
تاريخ النشر : 2021-09-01 19:12
صورة أرشيفية

غزة:

"بابا بدك ترجعلنا؟"، قالها الطفل عماد (5 سنوات) لوالده محمد مقداد، الذي يوشك على الذهاب إلى مهمة عمل غير عادية قد تعود به "شهيدًا" رغم انقضاء العدوان: تفكيك قنبلةٍ من مخلفات جبروت "إسرائيل".

وجومٌ أصاب قلب الرجل. لقد فهم ابنه الصغير خطورة عمله رغم صغر سنه، فلم يتمكن من الإجابة، وظل صامتًا يتأمل وجهه الصغير وعيناه المتقدتان خوفًا، قبّل جبينه، ثم صفع الباب خلفه، وغادر صوب سيارة الشرطة التي تنتظره في الخارج.

بعد كل عدوان إسرائيلي أو تصعيد، تتحرك الطواقم الفنية لهندسة المتفجرات التابعة للشرطة في قطاع غزة، إلى الأماكن التي استهدفها الاحتلال، بغرض تحييد الصواريخ والقنابل التي لم تنفجر، وإزالة المواد السامة والخطرة، وشظايا الانفجارات، من بين مساكن المواطنين.

يقول مقداد، وهو أب لأربعة أطفال: "في ذلك اليوم، ذهبتُ لتحييد الخطر من منطقة سكنية، كانت يداي فوق القنبلة، وعقلي مشغول فيما قاله طفلي. لم أتحمّل وقع كلامه، ملأني القلق عليه، كيف سيكون حاله لو أصابني مكروه؟".

لدى عودته إلى البيت وجد طفله "عماد" في انتظاره أمام باب البيت، احتضنه وكأنه يجيب عن سؤاله الذي طرحه عليه قبل ساعات: "نعم عدت يا بني".

النقيب محمد مقداد، هو رئيس قسم الإرشاد والتدريب في هندسة المتفجرات التي يعمل فيها 70 فنيًا على مستوى محافظات قطاع غزة.

علاوة على خطورة مهنتهم التي تجعلهم في مواجهة مباشرة مع الموت، هم أيضًا يعملون ضمن إمكانيات وأدوات بسيطة، فالاحتلال يمنع دخول الكثير من المعدّات اللازمة لإتمام العمل، كما يؤكد مقداد.

هندسة المتفجرات، قسم يتبع الشرطة الفلسطينية، ويعمل على مدار الساعة لإزالة مخلفات الاحتلال الحربية، وإتلاف الذخائر الخطرة، وكتابة التقارير الفنية الخاصة بمسرح الحدث، وتوثيق كل ما يتم التعامل معه بغرض استخدامه في ملفات انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، ناهيكم عن قيادة الحملات الإعلامية لتوعية المواطنين بضرورة الابتعاد على الأجسام الخطرة، والاكتفاء بإبلاغ مركز العمليات عنها على الرقم: 100.

بعد تلقّي إشارة من المواطنين بوجود جسم خطير، تتحرك فرقة من هندسة المتفجرات، وفي هذه الحالة هم يتجهّزون بما لديهم من معدات بسيطة وحتى سيارات متهالكة، ومن الناحية النفسية وفقًا لمقداد- فهم اعتادوا هذا العمل الخطير، دون إمكانية إخفاء بعض القلق الناتج عن نقص المعدّات، فالخطأ وإن كان بسيطًا؛ قد يكون ثمنه الموت.

الإمكانيات جدًا ضعيفة -يوضح مقداد- فالفِرق بحاجة إلى سيارات صالحة للتعامل مع الأماكن الخطيرة، ودروع وقاية، وخوذات، وأحذية خاصة، وأجهزة سحب عن بُعد، وجهاز تصوير الذخائر والأجسام المشبوهة، ومدافع مائية، وروبوتات، ورافعات، وكلها أدوات رغم أهميتها في حماية المواطنين، إلا أن الاحتلال يمنع دخولها إلى قطاع غزة، كما الكثير من المواد الممنوعة من الدخول.

ورغم محاولة اللجنة الدولية للصليب الأحمر إدخال هذه المعدات، ورفض الاحتلال لذلك، عمل القسم على توفير ما استطاعوا من أدوات بسيطة موجودة في السوق المحلي.

يشير مقداد إلى أجسام مرصوصة على أرفف في كونتينر يستخدمونه للعمل، بعد قصف الاحتلال مقرّهم خلال العدوان الأخير، يقول: "هذا صاروخ اف 16، وهذا ما يسمونه بالصاروخ التحذيري، أما هذه فهي قنابل الفوسفور، وتلك الأجسام الكبيرة عبارة عن طلقات متفجرة تخترق أجساد المواطنين العزل".

قبل عامين من الآن، استشهد الضابط عبد الرحيم عباس، أثناء محاولته تفكيك جسم مشبوه من مخلفات الاحتلال، سبقه استشهاد أربعة أثناء عملهم على إزالة مخلفات الاحتلال بعد عدوان عام 2014، وهم حازم أبو مراد، وتيسير الحوم، وبلال سلطان، وسعيد سلمان، واستشهد يومها الصحفي علي أبو عفش الذي كان يمارس عمله الصحفي، وبُترت ساق الصحفي حاتم موسى.

وقائع، جعلت عائلات الشبّان العاملين في قسم هندسة المتفجرات في حالة من القلق الدائم، رغم اعتيادهم طبيعة عمل أبنائهم، لكن تحديدًا في أوقات التصعيد، أو الاعتداءات الإسرائيلية الواسعة، يصبح القلق رفيقًا ثقيلًا.

النقيب بلال الشنباري، هو أبٌ لعشرة أبناء، أصغرهم يبلغ 4 أعوام، لا ينسى نظرات القلق في عيون زوجته وأبنائه كلما خرج في مهمة عمل.

"ما لا يقولونه باللسان تنطق به العيون"، يقول الشنباري لـ"نوى": "هم بالطبع يؤمنون بأهمية ما نقوم به من عمل، وأننا نميط الخطر عن الناس، وهذا يشعرنا ويشعرهم بالرضا وراحة النفس، إلا أن القلق غريزة إنسانية لا يمكنني منعهم عنها كلما خرجت في مهمة".

أمتار قليلة فصلت بين جيب الشرطة الذي يستقله النقيب بلال وصاروخ قصفته طائرة حربية إسرائيلية خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، فورًا انهالت الاتصالات من أفراد العائلة الذين كانوا على علم أنه يمارس عمله قرب المكان الذي تعرض للقصف.

يضيف: "ما يثير القلق ليس فقط نقص المعدّات؛ بل إن الاحتلال لا يلتزم بأي أخلاقيات أو قوانين دولية، كل الأماكن مستهدفة ومستباحة، وكل أنواع القنابل يسقطها فوق رؤوسنا وهم يتقصّدون ترك هذه المخلفات التي تُحدث الأذى، ونستمر في إزالتها لسنوات".

صواريخ لم تنفجر وقنابل "مشرّكة" -أي تنفجر بمجرد لمسها- وشظايا خطرة، ومواد سامة، ورائحة بارود تجلب معها ضيق التنفس، هذه هي الحياة التي يعيشها من يعملون في هندسة المتفجرات.

اعتدنا هذا العمل -يردف بلال- ونؤمن بأهمية دورنا، ولا أظن أننا نقبل العمل في مكان آخر. يبتسم معقبًا: "ولا أظن أن غيرنا مستعد للعمل هنا، أعمل منذ 13 عامًا مع الموت، لقد أصبح الأمر روتينيًا بالنسبة لي".

أطرق برأسه وهو يستذكر موقفًا عايشه عام 2014 بعد استشهاد أربعة من زملائه، ثم قال: "زرنا ذات يوم بيت زميلنا سعيد سلمان عام 2014 وكان عمر طفله خمس سنوات، حين رآنا سألنا "وين بابا عنكم؟"، هذه الكلمة لا أنساها حتى الآن، آلمتني لدرجة أن صداها يتردد في أذني حتى اليوم".

يشير مقداد إلى صور زملائه شهداء قسم هندسة المتفجرات المثبّتة على جدار الكونتنير،  ويعلق بقوله: "كانوا رفاقًا أعزاء، لا يمكن أن ننساهم".

وفقًا لمقداد، خلال العدوان نفذ فنيو القسم 1200 مهمة ما بين إزالة مخلفات حربية، وتعامل مع ذخائر، وتأمين مزارع، وقد وصل العدد إلى 2300 مهمة حتى اللحظة. "ونحن مستمرون ما دامت قنابل الموت تحيط بمساكن الآمنين في قطاع غزة".

صورة أرشيفية لعمل هندسة المتفجرات 

معرض في قسم هندسة المتفجرات يضم صورًا وعينات من متفجرات أسقطتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي الحربية على المواطنين