عن مشاهد العدوان التي تنهش ذاكرة صحافيات قطاع غزة
تاريخ النشر : 2021-06-12 09:17

رفح :

بمن أبدأ بالضبط؟ ديانا، مريهان، سعاد، سالي، منى، بيداء، نور، أسماء وسماهر والعشرات من الصحافيات، لكلّ واحدة قصة، وكل قصّة تحمل مأساة لا تشبه مأساة الأخرى.

في الظاهر، تبدو الصحافيات قويات، لكنّ الحقيقة أن الضعف يضرب قلوبهن كما ضرب الاحتلال قطاع غزة على مدار 11 يوماً، كانت صواريخه تفتك بأجساد الناس وأثرها يفتك بأرواح الشاهدين والشاهدات على هذه المجازر.

من أمام بحر رفح جنوب قطاع، حاولت مؤسسة فلسطينيات دعم الصحافيات بدعوتهن ليوم كأحد أشكال الرعاية الذاتية تقديراً لدورهن في تغطية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لكن هل كان ذلك كافياً؟ سؤال جدير بالتمعن.

"أتينا اليوم لكي ننسى قليلاً، أو على الأقل نهرب مما عشناه، هل هربنا فعلاً؟" كانت الصحافية أسماء الوادية والتي تعمل في تلفزيون فلسطين تمعن النظر في زميلاتها وتتساءل. 

ممّا لا شكّ فيه - وفق أسماء - أن هذا اليوم مهم بالنسبة للعاملات في الإعلام واللاتي تعرضن لصدمات شديدة نفسية على إثر التغطية، وعلى إثر أنهن لا زلن على قيد الحياة.

ربّما هذا الأمر صار مستغرباً لدى الناس في القطاع، حتى أن أصواتهم تعلو بالشوارع حين يلقون السلام على بعضهم قائلين "والله لا أعلم كيف إحنا لليوم عايشين" وكأن عدّاد الموت الذي ضبتطه إسرائيل للفلسطينيين هنا قد مرّ عنهم بمعجزة.

ما فعله العدوان بأسماء لم يكن هيناً، فهي صحافية وأم أجبرت على ترك ابنتها في أحلك ظروف مرّت بها البلاد وخرجت للقيام بمهامها، كانت تعود في المساء لتعيش مأساة أخرى باستقبال الخوف وكأنه ضيف ثقيل على قلبها وقلب طفلتها البالغة من العمر ثلاث سنوات.

وبينما كان زوج أسماء وهو صحافي أيضاً، يقيم في مقر عمله منذ اللحظة الأولى للاستهداف الإسرائيلي رأت بنفسها وطفلتها :"وحيدات، كنا نسند بعضنا البعض لعلّ العدوان يكون كابوساً ستنقذنا الصحوة منه في أعجل وقت"، لكنّه مع الأسف كان حقيقي باغت الأموات في قبورهم أيضاً. 

لم تتردّد الصحافية بالانضمام إلى دعوة فلسطينيات، بل إنها استجابت لجلسة تفريغ جماعية مع زميلاتها اللاتي روين تجاربهن، الوجع واحد والدموع واحدة. 

صحافيات تتحدّث وأخريات تسمعن، ومن جهة ثانية حاولن الاستجابة لصوت أمواج البحر في بحثاً عن فرصة للهرب، لكنهن حتى بهذه لم يستطعن النجاة حين اخترقت طائرات الاحتلال الحربية السماء فعلقت إحداهن ساخرة "أمانة بلاش اليوم، طالعين ننسى بس الاحتلال مصمّم يذكرنا" وأخرى "حتى يوم الدعم النفسي لحقتونا! نفسي نعيش يوم بدون طيران وعدوان وهموم". 

وفي الحلقة الدائرية التي جمعت الصحافيات، كانت وفاء حجاج وهي صحافية تعمل بالقطعة للعديد من المواقع الإخبارية تستمع إلى زميلاتها وتتأمل قصصهن. 

"لست وحدي" هكذا بدأت الحديث بعد الاستماع إلى قصص زميلاتها، أمر ربّما يهون على القلب آلامه - علقت -.

تقول وفاء إن الكوابيس لم تكف عن اللحاق بها منذ انتهاء العدوان، الشابة التي تسكن وسط قطاع غزة كانت قد لجأت إلى منزل صديقة لها تسكن في شارع الوحدة وسط مدينة غزة ظنًا منها أنه أأمن لها من التنقل بين المحافظات وأسهل لأن تقوم بعملها. 

وشارع الوحدة، منطقة صارت تعرف بـ "مجزرة الوحدة" بعد استهداف الاحتلال الإسرائيلي منشآت مدنية أودت بحياة نحو 45 فلسطينياً وفلسطينية في ليلة واحدة. 

تضيف "لم أصدق أنني نجوت، كانت من أقسى الأيام التي تمر علي في حياتي"، مشيرة إلى أنها قامت بتغطية العدوانات السابقة على القطاع وتظن أنها تجاوزت أمرها، إلا أن الأخير عاد لتذكيرها بأن شيئاً لم يمر.

وتزيد أن ما عاشته في "الوحدة" وفي عملها خلال العدوان الأخير يضاهي كل آلام التغطيات السابقة وأثرها النفسي، موضحة "نحن اليوم أحياء بالصدفة وهذه قصّة مؤلمة، نحن أحياء لكن قلوبنا ماتت من هذا الأسى".

ديانا المغربي، صحافية تعمل بمؤسسة "الثريا" للإعلام تشاطر زميلاتها الحزن، تستمع إلى قصصهن وتتأمل البحر أيضا، "هل نحن بحلم أو بعلم؟" سؤال مشروع من كلّ الناجيات بوصفٍ أدق. فكيف لهؤلاء الناجيات أن يعدن للاجتماع هكذا دون عدوان هذه المرة؟ فالميدان كان هو من يوحّد لقائهن لكن دون تجارب شخصية، تروين قصص الناس، وقصصهن تخبى في نظراتهن المتبادلة للاطمئنان من بعيد. 

تتابع ديانا أن ما خلّفه العدوان هذه المرة لن يمرّ كما لم يمرّ سابقه؛ لكنه كان أعظم في قاموس عشرتها مع الضحايا الذين كانت صباحاتهم تزين يومها كلما وصلت مكان عملها المجاور للعمارات المستهدفة بشارع الوحدة. 

لم يعد اليوم هناك صباح الخير ولا أي مساء. ركام المنازل التي أسقطها الاحتلال فوق رؤوس أصحابها انتزع كل الذكريات وترك الأسى لديانا وماريهان وآية وعطاف وكل العاملات بمؤسسة الثريا والعابرين من هناك.