"أميرة" أم الأيتام التي استشهدت مع مدللها عبد الرحمن
تاريخ النشر : 2021-06-11 16:27
أميرة صبح وابنها عبد الرحمن

غزة:

حرقة القلب وغصته، حزن عميق وسكون، ما زال يلّف منزل السيدة أميرة صُبح "57"، في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والتي استشهدت خلال العجوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، مع نجلها عبد الرحمن "18 عامًا"، وهو من ذوي الإعاقة، واللذان تركا في البيت فراغًا وأوجاعًا لن تزيلها الأيام.

استشهدت أم أسامة (57 عاماً) يوم 11 مايو 2021 29 رمضان، ثاني أيام العدوان الذي استمر 11 يومًا؛ في قصف من الطائرات الإسرائيلية الحربية دون إنذار على شقة سكنية في مخيم الشاطئ لترتقي ونجلها، وتلحق بزوجها الذي استشهد عام 2003.

غادرت الخمسينية أم أسامة دنيانا، بعد الكثير من التعب في حياتها، فهي تحمّلت وحدها عناء البيت وتربية الأبناء بعد استشهاد زوجها، ناهيك عن رعاية ابنها المدلل عبد الرحمن الذي كان من ذوي الإعاقة، وهو شديد التعلق بها.

تركت الشهيدة أم أسامة أبنتها هالة صبح (32 عاماً) وحيدة بعدما أذاقها الاحتلال اليتم للمرة الثانية تقول:"في الليلة الأخيرة لهم كنت قلقة وبشكل كبير عليهم، وطلبت من أمي القدوم إلى بيتي، إلا أن أمي طلبت أن تستخير الله، وبعد الاستخارة قررت البقاء في منزلها، وعدم المغادرة، واتفقنا على زيارتها وأولادي في اليوم التالي".

 "بعد أذان الفجر سمعت صوت انفجار قوي في منزلي القريب من منزلها، وطلبت من زوجي الاستماع للراديو لمعرفة أين مكان القصف، لأتفاجأ أن القصف كان في بيت أهلي، وشعرت بوجع في قلبي خرت معه كل قواي".

"لازلت لا أصدق ما حدث، وكأنني في حلم أتمنى أن استيقظ منه، فأمي كانت الحياة بالنسبة لي، لا يمضي يوماً دون محادثتها والاطمئنان عليها، واستشارتها في كل شيء، فهي من أفنت حياتها، وهي من تعبت وسهرت وضحت من أجلنا، بفقدانها فقدت الأمان والحنان والاحتواء، ولم يعد للحياة طعم".

كرست الأم وقتها طيلة شهر رمضان للصلاة وقيام الليل وقراءة القرآن وحثّت أبناءها على ذلك، ربما شعرت أن أيامها باتت معدودة، تنهّدت هالة بقهر وهي تضيف :"أما عبود فكان أخي المدلل وروح الدار فعندما تزوجت كان في الثالثة من العمر، ومتعلق بي بشكل كبير، وفي أول ليلة لي بعد الزواج قضاها في البكاء، ولم يرتح له بالاً حتى سمع صوتي، ونظر إلى وجهي".

أسامة، نجل الشهيدة الذي ما زال في حالة صدمة، يتذكّر بمرارة تفاصيل تلك الليلة التي فقد فيها الأحبّة أمه وأخيه:" عند الساعة 1 فجرًا، اتصل شقيقي معاذ بأمي وطلب منها الذهاب لشقته للاستئناس سويًا"، لكن الأم رفضت الفكرة قائلة:"خليني بالبيت واللي بيصير على الناس بيصير علينا".

قبل ساعة من قصف شقّتها تواصل أسامة مع أمه كما اعتاد، هذه المرة طلب زيارتها ولكنها رفضت معقّبة: "لا أريد أن أنشغل بكم، أريد ختم القران للمرة الثالثة"، مضيفًا:" وبناء على رغبتها نَفذت ما تريد".

ليلة التاسع والعشرين من رمضان، سهرت الأم في صلاة القيام حتى مطلع الفجر، لا سيما وأنها ليلة وترية، يحتمل أن تكون ليلةَ القدر حيث جرت العادة إحياء الليالي الوترية في العشر الأواخر من رمضان، ثم نامت بعد صلاة الفجر.

يقول أسامة:" ماهي هي إلى دقائق؛ حتى سُمع صوت قصف شديد في محيط مسجد السوسي في مخيم الشاطئ، وبالتحديد في العمارة التي تسكن فيها أمي".

تسارعت دقات القلب، وسيطر الخوف والقلق، وبدأت الاتصالات تتوالى مؤكدة أن القصف الإسرائيلي طال هذه المرة شقّة أمه.

يقول أسامة:" سارعنا إلى المكان، أسفل العمارة ترامى الزجاج المتكسّر والأثاث المدمّر والأوراق، لم نرَ إلا الدمار ولم نشم سوى رائحة البارود، فالقصف طال شقتين في العمارة المكوّنة من ستة طوابق، وأحدث فتحة كبيرة فيها".

هنا كانت الصدمة، أميرة وابنها عبد الرحمن أصبحوا تحت الركام، تم العثور على عبد الرحمن بعد ساعة ونصف من البحث، وبعده عثروا على أمه، يقول أسامة: "رحلت أمي ورحل معها روح الدار وآخر العنقود".

يغمض الشاب عيناه بقوة محاولًا إخفاء قطرات من الدموع، ما لبثت أن خانته، ثم يقول:"صدمتي وحسرتي بفقدان أمي كبير، أفنت حياتها من أجلنا، تحمّلت الكثير لتربّينا وتعوّضنا فقدان الأب".

كانت أم أسامة سيدة متديّنة منذ شبابها، حملت راية الكفاح وكانت بمثابة أب وأم لأبنائها الستة (خمسة ذكور وابنة)، بعد استشهاد زوجها، كان أكبر الأبناء في 14 من عمره، كبر الأبناء وتزوج ثلاثة منهم وابنتها الوحيدة، وأولت اهتمامًا بالغًا بعبد الرحمن الذي ظلّ برفقتها.

تعلقت روح "أم أسامة" بعبد الرحمن (18 عاماً)، فلسانها لم يتوقف يوماُ عن الدعاء بأن لا يعيش بعدها ثانية واحدة، وأن يقبضهما معًا، ووصيتها الدائمة لأبنائها بأن يقوموا بدورها في رعايته والاهتمام به، وتلبية احتياجاته، خوفاً عليه، حتى لا يعاني بعدها من هذه الحياة، خشية تقصير أحد في حقه، أو الوقوع في إهانته، واستجاب الله دعاءها.

يتحدث أسامة عن تفاصيل مرض شقيقه:"ولد أخي مصابًا بشلل دماغي، لا يستطيع القيام بأي من أموره الحياتية، ويحتاج لمن يساعده، كانت أمي من تقوم بإطعامه، ورعايته وتوفير احتياجاته كلها، تعرف يسعده وما يحزنه، وتفهم احتياجه رغم أنه لا يستطيع الكلام".

"ضحت أمي كثيرًا من أجل عبد الرحمن، لم تكن تخرج إلا للضرورة القصوى، حتى تبقى بجواره، وكان عبد الرحمن متعلقًا بها جدًا، فلا ينام إلا إذا نامت، وإذا أرادت الصلاة يحضر لها سجادتها، وبعد انتهاء الصلاة يحضر لها المسبحة"، يقول أسامة.

حالة الحزن ما زالت تسيطر على أسامة وإخوته، وهم في كل يوم يلقون على روحها ورح عبد الرحمن السلام، فروحهما صعدت إلى السماء وتركت في قلوبهم الوجع.

بحسب وزارة الصحة في قطاع غزة، فقد خلف العدوان الإسرائيلي الذي استمر لأحد عشر يوماً،  256شهيد من بينهم 66 طفل، و39 سيدة و17 مسن، إضافة إلى 1948 إصابة بجراح مختلفة.