جومانة غيث الطبيبة المقاتلة على جبهة الطوارئ
تاريخ النشر : 2021-06-09 09:02

غزة:

في قاعة الطوارئ بمستشفى الشفاء غرب مدينة غزة؛ تصرخ طفلة فلسطينية مصابة أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، قائلة "ملابس العيد اللي لسة ما لبستها انحرقت، بينما تنحني الطبيبة الشابة جومانة غيث لتطبيب جرحها وتهدئتها " المهم أنك بخير".

كان هذا واحدًا من مشاهد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي اندلع في 10 مايو الماضي واستمر 11 يومًا مخلّفًا 265 شهيدة وشهيدًا، ومئات الجرحى وآلاف البيوت المدمرة.

كومة من المشاهد العالقة في ذهن طبيبة الطوارئ الشابة جومانة غيث، فالشابة العشرينية آثرت أن تنضم إلى جيش الأطباء المقاتلين لتساهم معهم في إنقاذ الجرحى، رغم ذلك، فالجرح ما زال نازفًا لكثرة ما رأت من مشاهد آلمت قلبها.

"يا لهول ما رأيت!" هكذا عبرت الدكتورة غيث عن صدمتها من المشاهد المرعبة التي واجهتها خلال أيام معركة سيف القدس؛ فقد وجدت الأطفال الجرحى الذين درست الطب لتعالجهم، يُحملون إلى أسرة الاستقبال بجراحهم المفتوحة وحروقهم وكسورهم، يتألمون متوسلين للمساعدة.

وأضافت أنها- مع هول المشاهد المتلاحقة، تماسكت: "وضعتُ مشاعري في الزاوية.. وقمت بواجبي بِجِد"، وشجعت نفسها بالقول: "فكرت أن هؤلاء من سيعيد للوطن كرامته السليبة وسيعيد له الحرية، وأنا سأنقذهم!"

رغم القصف المرعب، واصَلت مثل الكثير من زملائها الذهاب للعمل سيراً على الأقدام، عند تعذر وجود مواصلات أو إغلاق الطرق المؤدية للمستشفيات أمام السيارات بسبب تعرضها القصف، وفي كل مرة تودع عائلتها لأنها لم تكن تضمن عودتها لها.

كان بإمكانها أن تتهرب من كل هذه المتاعب، خاصة أن مسؤولها المباشر لم يضغط عليها للنزول للدوام في أيام العدوان الأولى، لكنها أصرت على الحضور والقيام بواجبها، وهكذا نزلت للعمل من اليوم التالي لبدء العدوان، وقضت أيام العيد بين أسرّة المصابين.

في اليوم الثاني لعيد الفطر، وصل تحذير للمنطقة المحيطة ببنك الانتاج القريب من مجمع الشفاء، لضرورة الابتعاد خمسمئة متر من كل اتجاه تمهيداً لقصفه، وكان من الصعب نقل المصابين في الاستقبال بعيداً عن دائرة الخطر، ولم يكن هناك وقت كافٍ للتحرك، فتم قصف البنك، وتزلزل مجمع الشفاء الطبي، وتعرض كل من فيه من طواقم وجرحى ومرضى وأهالي وإعلاميين للخطر.

تعلّق د. جومانه :"سقط الجرحى عن أسرتهم، وبقي طعم التراب في فمي طوال النهار، بكيت رغماً عني كان هذا مروعاً" ثم أضافت: "تخيلي قصفوا منطقة الجندي في العيد! جاء كم هائل من الإصابات معظمهم أطفال، إحداهم طفلة عمرها شهرين فقط، أخوها دخل مصاب، لكنه بدلاً من البكاء، كان يبحث عنها مذعوراً".

لا يمكن للطبيبة جمانة نسيان أيّ من المشاهد التي عايشتها؛ تقول:"كيف أنسى الأطفال الذين تم انتشالهم من تحت الركام، كيف أنسى الطبيبة شماء أبو العوف، كيف أنسى الدكتور أيمن أبو العوف الذي علمّني الطب وأخلاقياته، الشهداء مجهولي الهوية، الأكفان الفارغة المجهّزة للشهداء، السطر الذي كنت أكتبه على ورقة الاستقبال كلما فقدت فرصة لإنقاذ حياتهم".

لكن تعقّب على التجربة بقولها: "اكتشفت قوة أن أكون طبيبة تستطيع مد يد العون"، منحتها الحرب الثقة والحزم، وأدركت قيمة أن تستطيع تقديم الأمان والراحة قبل العلاج، تحديداً للأطفال وللسيدات والفتيات المصابات اللاتي خشين أن ينكشف سترهن أكثر من خشيتهن من الموت؛ تجربة أعطتها دفعة للأمام في مجالها المهني الشائك، ورفعتها عالياً في سماء من نذروا أنفسهم لخدمة الإنسانية.

وعبرت عن سعادتها بدعم محيطها الاجتماعي، كل من خافوا عليها أصبحوا اليوم فخورين بها، تحفظ رسائلهم التي انهالت عليها أثناء الأزمة، ولم يكن لديها الوقت لتراها، واليوم تكافئ نفسها بالعودة لها لتقرأها وتسعد بكل هذا الحب والدعم.

كانت الصبية ذات الملامح الطفولية تحلم ذات يوم أن تكون فنانة تشكيلية مع تميّزها بموهبة الرسم، لكنها لم تجد نفسها سوى في غرفة الطوارئ تحمل مشرطاً ومقصاً وتتعامل مع الجروح والكسور والبكاء والصراخ والشاش الملطخ بالدماء.

بعد حصولها على مزاولة المهنة، عملت الطبيبة الشابة جومانه غيث في مجال طب الأسرة؛ لكن لأنها عاشت ويلات ثلاث حروب في غزة، ورأت الأطفال يُقتلون والعائلات تُباد، قررت أن تجد لها مكاناً بين أطباء الطوارئ، لتدفع الأذى عن الأبرياء الناجين من المذابح.

واجهت غيث اعتراضات كبيرة من المحيطين بها، لصعوبة التخصص الذي اختارته، حتى زملائها الذين كانوا بحاجة ماسة لأفراد جدد ليساعدوا في تخفيف الحمل الثقيل، فضّلوا أن تبقى في تخصص طب الأسرة، أشفق الجميع عليها من متاعب العمل في الطوارئ وما تشكّله من ضغط وإرهاق جسدي ونفسي، لكنها كانت عازمة على عدم التراجع، وكان لها ما أرادت.

ومنذ اليوم الأول عرفت الطبيبة المثابرة أن هناك ثمن لكل قرار، وأن الطريق نحو حلمها لم يكون حالماً، ففي الطوارئ على الطبيب أن يكون يقظاً وسريعاً ودقيقاً، لأن أقل خطأ يمكن أن يتسبب في فقدان المريض أو إعاقته الدائمة. قضت فترة صعبة من العمل في القسم، فهمت لاحقاً أنها لم تكن سوى تدريب عملي لخوض مارثون الطوارئ الحقيقية.

وبلهجة أكثر ثباتًا وقوة تختم د.جمانة حديثها لنوى :"أصبحت أكثر جَلدًا، وكلما ناداني الوطن سأكون في المقدمة".