انتظار "مُرّ" لشهر "عسلٍ" منتهي الصّلاحية
تاريخ النشر : 2021-06-07 15:18

بيت حانون:

الساعة الثانية عشر منتصف الليل، تغلق ريم حمد ذات الثمانية عشر عامًا غرفتها، تسند ظهرها على سريرها وتمسك بجوّالها، تتسلل إلى محادثاتها القديمة، تتصارع دقات قلبها، وتبدأ بمراجعتها، تمتزج ابتساماتها بدموعها الغزيرة، ثم يقترب الفجر على البزوغ فترسل إلى رائد حمد "هذا هو اليوم العاشر الذي لم أسمع فيه صوتَك، ثم ترسل له رسائل اشتياقها وافتقادها عبر المسنجر لتغفو تبلل دموعُها وسادتَها.

تتساءل ريم "هل يا تُرى تصل رسائلي للجنّة"؟ هل يراها رائد ويشعر بها؟ تحتضنها والدتُها وتطبطب عليها وهي تعتصر الدمعَ بقلبِها:" بالطبع تصله يا حبيبتي، فرائد شهيدٌ حيٌّ عند ربّه وإن أبادت الصواريخُ جسده"، وفي سرّها تقول:" يا ليتنا ما عرفناك يا رائد ويا ليتنا لم نوافق على خطوبتك من ابنتي، إنها ما تزال طفلة ولا تقدر على كل هذا العذاب".

حين التقت - نوى- ريم كانت والدتها تقابلها في الجِلسة وكانت تدقّق في انفعالات ريم وملامحها فتغرق عيناها بالدموع وسرعان ما تحبسُها قبل أن تسقط وتروي:" رائد مزّق قلوبَنا جميعًا حين رحَل، فقد أحببناه حبّاً لم نكن لنعطِيه أحدًا غيره، لم يترك منا كبيرًا ولا صغيرًا إلا أحبه وتعلّق به، فماذا سيكون حال صغيرتي؟".. تشير إلى ريم.

فقد وذبول

وتقول:" أرّقني هدوؤها، وذبولُها، أريدها أن تصرخ وتبكي بصوتٍ عالٍ لعلّها تُخرج ألمها، وتعود لحياتِها الطبيعية المليئة بالمرح والتفاؤل لكنها ساكنة تبكي بصمت، ولا تنام الليل، لقد انطفأ البيتُ بغياب ضحكتها التي لم تكن لتفارقها بوجود رائد".

غاب رائد قبل أن يفصِح لأهل مخطوبته ريم عن رغبته في إلغاء العرس الذي كان من المفترض أن يُقام بعد العيد بفترة قصيرة، والاكتفاء بحفلة الحناء الخاصة بريم على أن يوفّر المال ليسافران ويقضيان شهر عسلٍ في تركيا أو مصر، وكم كانت ريم فرِحة بهذا القرار، أخبرَتْه أنها تحب مصر ففيها شرم الشيخ والأهرامات وأنه يمكنهما التعامل بسهولة مع كل من حولهما بسبب توافق اللغة.

يرد رائد عليها ممازحًا:" وهل تظنين أنك ستكونين قادرةً على الحديث مع أحد، سيُعقَد لسانُك لكثرة الحب الذي سأغدقه عليكِ".

كانت ريم تُسلّم بقرارات رائد، لقد وثِقَتْ به حتى باتت تبارك له كل خطواتِه وفق تعبيرها، فتقول -لنوى-:" كان حكيمًا ولديه خبرة واسعة في الحياة حيث كوّن نفسه بنفسه واختلط بالكثير من الناس بحكم عمله في محله الخاص بالملابس الشبابية".

وتتبع:" كما أنه يكبرني برقم كبير فهو بعمر 32، وقد كنت مثلكم ومثل أهلي أظنّ أن الفارق سيكون عقبةً بيننا حين تقدّم لخطبتي، لكنني حين جلستُ معه أول جلسة ورأيت ابتسامته ولطافته وممازحته وكلماته الشغوفة بالحب والحياة ملك قلبي وروحي".

شاطئ الحب

وتواصل:" لا أنسى جلساتنا على الجبل المقابل لشاطئ البحر، كان يُقدرني ويحترمني لشخصي وأمام الجميع ويُسمعني أعذب الكلمات، أشعرني أنني طفلته وامرأتُه وعروسه وحبيبته، أما أكبر ضحكاته فما زالت ترنّ في أذني حين سألني عبر الهاتف قبل قدوم شهر رمضان؟ اطلبي ما تشائين.. فطلبتُ منه أن يحضر لي فانوسًا، أظنّه رأى طلبي طفوليًا لكنه أحضره لي على الفور".

لقد بات الفانوس اليوم أحد أجمل الذكريات التي تحتفظ بها من الشهيد، تعبر:" كلما نظرتُ للفانوس سمعتُ ضحكاته".

آخر لقاءٍ جمع ريم برائد كان في الثلث الأخير من رمضان، حين سمعتْ صوت سيارته الساعة الواحدة فجرًا فركضت على الدرج لتستقبله ببيجامة النوم، تروي:" كان يحب أن يراني على طبيعتي، وكان ذلك يسعدني، المهم أنه أعطاني مالًا لأشتري ملابس العيد، وكنت جهزت له صندوقًا من الكعك، تناول كعكةً ولم يتوقّف عن مدح عملي قائلًا:" الحلو ما بيعمل إلا الحلو"".

وتكمل:" جاء بعد منتصف الليل ليراني ويخبرني أنه سيطيل الغياب بسبب انشغاله في عمله بموسم العيد، وأنه سيأتي يوم العيد ليعايدني، وأخبرني أن المال الذي سيجنيه سيكون خاصًا برحلة شهر العسل".

وتواصل:" جاء العيد وكلي لهفةٌ للقائه لكنه لم يحضر بسبب استشهاد ابن عمّه في أول ضربة صاروخية لغزة، ولم يأتِ بعد العيد، ولن يأتِ للأبد لأنه شهيد، فلعنة الله على الاحتلال الذي قتل فرحتنا وأحلامنا".

في اليوم الذي قصف فيه الاحتلال بيتَه كان ينوي رائد بزيارة مفاجأة لريم" أخبرتْني والدته أنه حلق ذقنَه وتعطّر من أجل زيارتي، وهو لم يعلم أنه يتعطّر ويتزيّن للذهاب للجنّة".

أما والدة ريم فتوضح:" استُشهِد رائد وأعاد لقلوبنا الحزن الذي عشناه في عدوان عام 2008 حيث قصف الاحتلال بيت أهلي بشكل مباشر فاستشهدت والدتي وإخوتي الثلاث وابنة أخي وهم يتناولون قطائف رمضان ويحتسون القهوة".

وتضيف:" كانت أيامًا قاسية بقسوة الصواريخ وجرم الاحتلال، تلك الأيام التي عشت وجعَها تعيشها ابنتي اليوم وهذا ما يكسر قلبي زيادة، مرة على فراق نسيبي الخلوق وأخرى على وجع ابنتي".