عدوان 2008م.. رائحةُ "الموت" عالقةٌ في عمق الذاكرة
تاريخ النشر : 2020-12-27 22:38

شبكة نوى | قطاع غزّة:

"يا سلام، البلد هادية، ومن زمان ما سمعنا صوت قصف"، قالتها راوية أبو القمصان تحدّث نفسها، قبل أن تغُطّ في نومٍ عميقٍ. هي عدة ساعاتٍ انشقَّ بعدها فجر السبت 26/ كانون أول- ديسمبر، على أصوات انفجاراتٍ هائلة، هشّمت زجاج منزلها وأصابت من فيه بهلعٍ يشبه "الموت المؤقت"، ذاك الذي يعايشونه مع كل عدوان.

في تلك اللحظة، صرخت راوية تنادي أطفالها دونما وعي: "تعالوا عندي يمه، الحرب قامت يمه، الحرب قامت"، ثم احتضنت مخاوفهم، وهي التي كادت أطرافها تتجمّد من شدة البرد والخوف في آنٍ معًا.

تساءلت: "أتراني حسدتُ غزة؟"، وتكمل: "بصراحة، كانت ليلة من قاع الكيلة (مقولة شعبية تدل على مستوى السوء)، ذكرتنا باللذي نحاول أن ننساه"، متابعةً بعد لحظة صمت: "بصراحة، لا أدري إن كان هناك متسعٌ للذكريات في ثنايا النكبات المتلاحقة التي تصيب غزة، أو ربما أنا لا أريد أصلًا أن أتذكر".

لعلها محض صدفة، أن ينتزع الاحتلال سكينة الآمنين في منازلهم تلك الليلة تحديدًا، أو ربّما هي ليست كذلك. قصفٌ في ليلةٍ سبقت بيومٍ واحد، تاريخ السابع والعشرين من ديسمبر، هذا التاريخ الذي تدوّي أحداثه بأنات الناجين من عدوانٍ أطلقت عليه "إسرائيل" عام 2008م، اسم الرصاص المصبوب، رصاصٌ انسكب نارًا فوق أجساد الأطفال والنساء والشيوخ والشباب الآمنين مدة 21 يومًا. 

صرخت راوية تنادي أطفالها دونما وعي: "تعالوا عندي يمه، الحرب قامت يمه، الحرب قامت"، ثم احتضنت مخاوفهم، وهي التي كادت أطرافها تتجمّد من شدة البرد والخوف في آنٍ معًا

أنس سمحان، فلسطيني يروي تجربته مع العدوان الأوّل، فيقول: "12 عامًا انقضت، وما زلتُ أرى في شريط الذاكرة، أعمدة الدُخان التي كانت تبعدُ عني أكثر من ثلاثين كيلو مترًا في قلب المدينة". 

كان فتىً في الخامسة عشر من عمره، يقدم اختبار مادة التكنلوجيا النهائي للصف العاشر، حين بدأ صوت القصف يعلو من مدينة غزّة.

يتابع: "لم يكن الأمر مُتخيَّلًا حتى. نحن نسمع قصفًا غير مسبوقٍ في غزّة، وهو أمرٌ يحصل لأول مرة منذ زمن. خرج المراقبون إلى الممرات ليروا ما يحصل، جمعوا منا الورق سريعًا، وطلبوا منا المغادرة إلى منزلنا، والتحضير لامتحان اليوم التالي- الجيوغرافيا".

الطلاب استرقوا السمع، فالأساتذة رفعوا صوت الأخبار (يكمل أنس السرد) وكانت الخلاصة: "قصفٌ طال دورةً لتخريج الشرطة! صديقٌ كان بالقرب صرخ: "والدي هناك اليوم"، خرجنا كلنا من المدرسة نستمع إلى أصوات المذيعين هنا وهناك، وصلنا إلى بيوتنا مفجوعين، سمعنا عن شهداء بين الشرطة، وجثث متفحمة، وأراضٍ احترقت، وهكذا بدأت الحرب".

يتذكر أنس عندما جاءهم منادٍ يطلب من عائلته ترك البيت لأنه سيُقصف، ليكتشفوا فيما بعد أنها "إشاعة"، يتذكر عندما قُصِفَ شارعهم، واخترقت قذيفةٌ مدفعيةٌ كاملة ظهر امرأة على عربة يجرها حمار. تلك المرأة كانت تحتضن ابنها الذي بقي على قيد الحياة. يتذكر انقطاع الإنترنت، وسقوط شبكة الاتصالات، وأصوات صراخ الناجين.

ليس إلى هنا، يتذكر وما أطول شريط ذكريات الحروب في ذاكرة الفلسطينيين المقيمين في غزة، يوم إخلاء عائلته لأول مرة وذهابهم إلى بيت جدته، يتذكر اقتراب الاحتلال من منطقة الزنّة بخان يونس جنوب القطاع، يمشي بجوار خاله إلى المسجد، فيباغته متسائلًا: "هل أنت خائف؟" ليجيبه: "بالطبع، أنا خائف، أنا لا أستوعب ما يحصل الآن".

في تلك اللحظة، رمقه خاله بنظرةٍ هادئة، ووضعه في حضنه إلى أن حان وقت صلاة، عادا للتجمع مع باقي أفراد العائلة في منطقةٍ فارغة، الأطفال بدأوا يلعبون البنانير (الدحل/اللُب). لكن حتى هذه اللحظة، "لا أدري كيف انتهت الحرب أو أين كنت؟".

اثنا عشرة سنة، لم ينسَ أنس خلالها ذلك البؤس الذي عاشه قلبه "طفلًا" اضطر إلى أن يكبر بين يومٍ وليلة ليمتلئ قلبه بالخوف على أهله من موتٍ يتربص بالجميع –وهو منهم، يعقب هنا: "سيأتي اليوم الذي نلعن فيه هذا الاحتلال، ويطبّع معه ألف ألف مرة. لن ننسى، لن أنسى خوفي، ولن أنسى بكاء أمي، ولن أنسى وجه أبي الذي هرِمَ فجأةً أمام المذياع كمن ينتظر أجله، سنعلنها دائمًا: سنتذكر، وسنكتب، ولن ننسى، سيأتي اليوم الذي نعود فيه إلى بلادنا بعد اقتلاع آخر جندي محتل".

حنين حمدونة، أصبحت اليوم أمًا لطفلٍ اسمه زين، يوم شُن أول عدوان عام 2008م، لم تكن تتجاوز الـ (16) من عمرها، كانت تدرس في مدرستها الواقعة بجوار مبنى المخابرات (المشتل)، أحد أشهر المواقع التي ضُربت في لحظة البداية.. بداية الحرب.

تقول: "كنت طفلة وحيدة في الشارع، خرجتُ للتو من قاعة الامتحان بعد ساعات سهر طويلة أشاهد بذهولٍ الناس تهرع لإنقاذ الجرحى، لتباغتهم طائرات الاحتلال بضرباتٍ أخرى". 

نحو 1500 فلسطيني وفلسطينية، قُتلوا في هذا العدوان عدا عن آلاف الإصابات، عدّاد موتٍ استمرَّ 21 يومًا على يد "إسرائيل" التي استخدمت أسلحةً غير تقليدية ضد الفلسطينيين، كان أبرزها "قنابل الفسفور الأبيض"، و"اليورانيوم المخفف"

لم يكن من خيارٍ أمام حنين سوى الركض، الركض عكس اتجاه القصف لعلها تنجو بروحها وأحلامها من موتٍ بدا آنذاك غيمةً تغطّي الكل! لم تفكر لم تفكر سوى بالوصول إلى منزلها بأسرع وقتٍ ممكن، حتى صادفت والدها يركض بحثًا عنها، وعن إخوتها أيضًا، أخذ يحصي من عاد، وعمن يبحث بعد! بدا وكأنه نسي أسماء أبنائه مع شدّة الرعب!

تاريخ يرفض مغادرة ذاكرة حنين، برغم رفضها له، ومحاولة الهرب منه لئلا تباغت القلب ذكرياته المُرّة، تاريخٌ تدوّنه عبر صفحتها الشخصية في فيسبوك بـ"بداية أيام الحرب السوداء".

نحو 1500 فلسطيني وفلسطينية، قُتلوا في هذا العدوان عدا عن آلاف الإصابات، عدّاد موتٍ استمرَّ 21 يومًا على يد "إسرائيل" التي استخدمت أسلحةً غير تقليدية ضد الفلسطينيين، كان أبرزها "قنابل الفسفور الأبيض"، و"اليورانيوم المخفف"، الذي ظهر على أجساد بعض القتلى، وفق تقارير صادرة عن خبراء ومراكز حقوقية ومؤسسات أوروبية.

تاريخ هذا العدوان، دونًا عن غيره، سيظل حاضرًا بمشاهد تسترجعها الذاكرة رغمًا عن أنف الزمن، صورة أطفال السموني بلا رؤوس، وخمس جثامين لشقيقات أصابهن قصفٌ في جباليا، ومجزرة مدرسة الفاخورة التي لا تُنسى فيها مشاهد حمم الفوسفور الأبيض وهي تمطر رؤوس المحتمين فيها هربًا من القصف والاجتياح، حين أسفرت وحدها عن 46 شهيدًا، معظمهم من الأطفال والنساء العزل.