نسرين أبو كميل.. "أحمد" لم يعُد رضيعًا يا أُمَّهُ
تاريخ النشر : 2020-12-14 21:23

خانيونس:

تمرُ الأيام ثقالًا على قلب الطفلة أميرة أبو كميل (17 عامًا)، في انتظار الإفراج عن والدتها نسرين أبو كميل (45 عامًا) من سجون الاحتلال الإسرائيلي، بعد ست سنواتٍ من الاعتقال.

الاحتلال الذي حرم أميرة وإخوتها الستة حضن أمهم منذ عام 2015م، بعد أن اعتقلها جنوده  أثناء زيارتها لأهلها في الداخل المحتل، سيعيدها إليهم بعد عشرة أشهرٍ من اليوم، مصابةً بكومةٍ من الأمراض على رأسها السرطان، وآخرها فقدان النظر في إحدى العينين، وما بينهما ضغطٌ وسكري.

جرحٌ عميقٌ تركه تاريخ الثامن عشر من تشرين أول/ أكتوبر لعام 2015م في ذاكرة أميرة، حين أجبرها ظلم الاحتلال على أن تتحول إلى أمٍ بعمر أحد عشر عامًا، لسبعةٍ من إخوتها، أصغرهم كان رضيعًا بعمر ثمانية أشهر فقط!

تفاصيل ذلك اليوم موجعة: نسرين التي تقطن مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، أيقظت طفلتها أميرة –وهي أكبر بناتها الإناث- لتهتم بشؤون البيت ريثما تعود، وأوصتها بأن تهتم جيدًا بأحمد، ثم نادتهم جميعًا واحتضنتهم، وأغلقت الباب وغادرت.

كان الطبيعي أن تعود ظهرًا، لكن حلّ العصر ولم تعد. أطفالها بكوا قهرًا، فيما باءت كل محاولات والدهم لطمأنتهم بالفشل، حين كان القلق ينهش قلبه، والخوف يكسو ملامحه.

تقول أميرة: "بعد المغرب عاد أبي مُحبطًا، كل ملامحه كانت شاحبة، وكان قد تلقى اتصالًا يفيد باعتقال أمي، لكنه لم يخبرنا به، على أمل أن تعود في اليوم الثاني، لكنها لم تعُد".

"في ذلك اليوم، أخبرتنا زوجة خالي أن أمي ذهبت للمبيت ببيت أهلها في الداخل المحتل، لم نصدّق، لكن لم يكن أمامنا إلا الانتظار" تضيف.

أسبوعٌ بأكمله، والأب يحاول إقناعهم برواية زوجة الخال، الأطفال يقتلهم الخوف على مصير والدتهم، الكل يطمئنهم، لكن أطفال الجيران في الشارع أخبروهم أن أمهم اعتُقلت، كما أن اتصالًا ورد إلى هاتف الأب من شخصٍ مُسجلٍ باسم (محامي نسرين) رأته أميرة، قطع الشك باليقين.

تكمل: "بكينا كثيرًا، كل يومٍ كان يمر يزداد طعمه مرارةً في أفواهنا، كانت أصعب اللحظات التي عشتها في بداية اعتقال أمي، يوم مرض أخي الرضيع أحمد، كنتُ صغيرةً على تحمّل مسؤولية طفل كان يتوجب عليَّ مساعدته على فطام نفسه"، متابعةً: "كان يدور في البيت وهو يبكي، وينادي ماما، لا يقبل الطعام رغم محاولاتنا إطعامه، فمرِض، وذهبنا به أنا ووالدي إلى المستشفى، نام هناك أربعة أيام، لقد تشتت البيت كله بسبب ما فعله بنا الاحتلال".

كان على الطفلة التي لم تتم آنذاك 12 عامًا، أن تتحمل مسؤولية البيت كاملًا، كيف ستفعل هذا وهي نفسها بحاجة لمن يهتم بها؟ أصبحت تستيقظ مبكّرًا، ترتب البيت وتجهّز إخوتها للمدرسة، تمنح الطفل أحمد الرضعة الصناعية، ثم تعطيه لجدتها، ومن ثم تغادر إلى مدرستها، وتعود للاعتناء بالبيت ما بين طبخٍ وترتيب ورعاية لإخوتها ومتابعة دروسهم.

"ما تتحمله الأمهات جبل من المسؤليات، كانت صعبةً عليّ، ساعدتني فيها شقيقتي التي تصغُرُني ملك، المحامي أخبر والدي –في بداية المحاكمات- أن أمي ستبقى في السجن 12 عامًا، كنت أفكّر وأبحث عن إجابةٍ عن السؤال: كيف ستمّر كل هذه الأيام ونحن هنا بدونها؟ أطفالٌ نحتاج رعاية والدتنا، كيف سنرعى بعضنا البعض؟".

سنوات الطفولة باتت تنسحب من أيام عُمر أميرة، ومهام تحتاج منها إلى أن تفوق عمرها على الأقل بعشرين عامًا: 7 أطفال، وبيت كامل مطلوب منها، وهي التي بدأت تكبر وتنضج بعيدًا عن عيون أمها، حتى أحمد، الذي غادرته ابن أشهر، ستعود قريبًا لتجده يستعد للاحتفال بعيد ميلاده السابع، بعد أن اختلفت كل ملامحه، عن تلك التي تركتهُ عليها قبل أن تُعتَقَل.

لكن أكثر ما يثير قلق أميرة إخوتها اليوم، رغم اقتراب موعد الإفراج، عودتها إليهم مريضة، هم يخشون من مجرد التفكير بفقدانها مجددًا، هم يريدون أمهم –كما غادرتهم- تمسح عن قلوبهم غبار المرض والهم والخوف والتعب.

تقول أميرة: "ناشدنا كثيرًا من أجل أن تتلقى أمي العلاج بعد أن أصيبت داخل الأسر بالسرطان والضغط والسكري، وفقدت النظر في إحدى عينيها، لكن الاحتلال، وطوال خمس سنواتٍ ونيف، لم يستجب".

الأب حازم أبو كميل (أبو فراس)، الذي ما زال يتذكّر جيدًا ذلك اليوم، يضيف على حديث ابنته قوله: "كانت تريد الذهاب لزيارة أهلها حيث يقطنون في الداخل المحتل، كان بإمكانها بعد مرور 15 عامًا على الزواج، أن تأتي لي بتصريح عمل هناك، وهي ذهبت لتجلبه فقط"، مؤكدًا أن الأمور كانت تسير حسب مجراها الطبيعي، ولم يكن يتخيل أبدًا أن يتم اعتقالها "فقد ذهبت قبل ذلك لزيارتهم بشكل عادي عبر حاجز بيت حانون (إيريز) شمال قطاع غزة".

يكمل: "حين تأخّرَتْ شعرنا جميعًا بالقلق، حاولتُ تهدئة أبنائي، وفي النهاية تلقيتُ اتصالًا من الاحتلال يفيد بأنها معتقلة، بعد وقت قررتُ أن أخبر أبنائي بالحقيقة، وبأن ما حدث مع أمهم هو قدر قد يطال أي فلسطيني يعيش على أرض فلسطين، ويعاني ويلات الاحتلال، وأن علينا الصبر والصمود".

الوضع النفسي داخل البيت انهارَ تمامًا –يصف أبو فراس الحال آنذاك- "إذ ليس من السهل على الأطفال أن يعرفوا أنهم لن يروا أمهم لسنوات، حاولتُ أن أتدبر أموري مع الأطفال، ومتابعة احتياجات البيت التي كانت تقوم بها أمهم، ولكن كان الأمر صعبًا للغاية" يزيد.

ويكمل: "المشكلة الأكبر كانت في أحمد الرضيع، لم يكن ينام أبدًا، وكان دائم البكاء والسؤال عن أمه، أضف إلى ذلك قلقنا على نسرين نفسها، وغياب المعلومات عنها، لم نعرف شيئًا عن مصيرها إلا بعد وقتٍ طويل".

منذ اعتقالها تم تأجيل محاكمتها عدة مرات، حتى تم النطق بالحكم بعد مرور 28 شهرًا و3 أيام بالضبط، حسب المحامي -يقول أبو فراس- كان الاحتلال سيحكم عليها بـ (12 عامًا)، ولكن تم تخفيض الحكم إلى 6 سنوات، على خلفية تُهم وضعها الاحتلال من تلقاء نفسه، ولم يثبت منها شيء.

يتابع: "زوجتي كأي امرأة عادية، لا تريد من الدينا سوى الحفاظ على أطفالها ورعايتهم، ما حدَثَ لنا قلب حياتنا، طوال أكثر من خمس سنوات، لم نرها، ولم نتلق منها أي صور"، يصمت قليلًا ويتمتم: "ننتظر لحظة الإفراج عنها بفارغ الصبر".

كل الأسيرات اللواتي خرجن قبلها، تحدثوا عن الوضع الصحي الصعب للأسيرة نسرين، "فهي بحاجة إلى علاج للسرطان، وللضغط، والسكري، وقد فقدت بعض أسنانها، ولديها مياه في الركبة، وفقدت النظر في عينها اليسرى أيضًا".

ويعتب أبو فراس على الكثيرين ممن كان يتوجّب عليهم الاهتمام أكثر بقضيتها، إلا أن كل ما يشغله الآن هو حالتها الصحية، ويعقّب: "المهم أن تخرج من السجن وترى الحرية، وتعود نورًا للبيت، وبعدها نتابع أمر علاجها، وهذا ما ننتظره".