هذا ما يعرفه شباب "غزة" عن "الطائرة"
تاريخ النشر : 2020-12-09 18:50

غزة:

منذ أن وُلِدَ قبل 24 عامًا، لم يعرف الشاب حمزة الشوبكي، ابن قطاع غزة، عن "الطائرة" إلا أنها سبب موت الكثيرين هنا. تلك التي تحمل رسمًا لنجمة "إسرائيل" وتقذف حمم غطرستها فوق رؤوس المدنيين الذين يسكنون "غزة" ولا يحلمون بأكثر من "حياة".

"طائرة، يعني خوف، دمار، حرب، قصف، دم، هكذا تمامًا، لم أرَ لها غير هذه الوظائف طوال حياتي"، يقول.

لم يغادر الشاب الشوبكي غزة أبدًا منذ ولد، كيف لا؟ وهو الذي عاش إرهاصات فتوته ومراهقته وشبابه تحت وطأة الحصار الذي يخنق غزة منذ أكثر من أربعة عشر عامًا.

ومثله مثل عشرات الآلاف من الفلسطينيين المسجونين داخل حدود هذا المكان، لم يسمع حمزة أبدًا عن "اليوم العالمي للطيران المدني" الذي يحييه العالم في السابع من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، بهدف المساعدة في توليد وتعزيز الوعي العالمي بأهمية الطيران المدني والدولي، في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول. كان رده عندما سألناه عن "الطيران" يشبه كافة ردود الشباب الذين لم يعرفوا من الكون الفسيح إلا حدود غزة.

حمزة: عندما تمرّ كلمة "طائرة" أمام مسامعي، فإنني بالتأكيد لا أتخيل سوى الموت والخوف والدمار

يضيف: "حتى في الخيال، يصعب علي التفكير بركوب الطائرة، أنا كفلسطيني محاصر منذ أكثر من عقد، ضمن مساحةٍ لا تتجاوز الـ 365 كيلو مترًا، بتُّ كـ "طيرٍ محبوسٍ في قفص، مذ ولدت وحتى يومي هذا"، مردفًا: "عندما تمرّ كلمة "طائرة" أمام مسامعي، فإنني بالتأكيد لا أتخيل سوى الموت والخوف والدمار والاحتلال الذي يعلن عدوانه على المدنيين هنا فجأة، الطائرة هي موت رأيناه طوال سنوات حياتنا، ولا نزال".

"هل حلمت يومًا بركوبها؟" سألَته "نوى"، فأجاب: "أحلمُ بذلك حقًا كلما استطاع صديقٌ لي السفر، شعورٌ غريبٌ لا يمكن وصفه، تتكركب مشاعري، وتتوتر أفكاري، أتمنى حدوث ذلك، لكن كيف ستكون التجربة؟ أسأل نفسي كثيرًا، وهل يمكن أن أركب الطائرة في يومٍ من الأيام نحو مستقبلٍ أفضل؟".

يصمتُ قليلًا ثم يكمل تساؤلاته: "كيف يمكن لي أن أتحرر من الاحتلال وقيوده وواقع غزة المأساوي الذي فرضته "إسرائيل" علينا كسكان لقطاع غزة منذ عهدٍ طويل؟ هل سأكون مسرورًا لو خرجت إلى ذلك العالم الفسيح، وتركت أصدقائي وأحبتي هنا تحت وطأة الواقع المتردي هنا؟ لا أدري حقيقةً".

وفي محادثات بينه وبين أصدقائه الذين استطاعوا النجاة من هذه الدوامة، لا يتردد بالسؤال عن الشعور الذي ساورهم في أول مرةٍ طاروا فيها إلى السماء، يحاول المقاربة لحظتها بين شعوره وما رسمه للمشهد في خياله، ويحاول في الوقت ذاته الإجابة عن التساؤلات التي تحدث عنها كلها، وعليها زيادة: "كيف هو شعور الإنسان عندما يكون في الهوء، معلقًا بين الأرض والسماء؟ كيف ستبدو المدن من النافذة؟ وكيف هو شعور الطير الذي يعيش حرية مطلقة دون قيود؟ وأيضاً كيف صار هذا الجسم الطائر بنا، حلقة وصل بيننا وبين أحلامٍ معلقة بعملٍ أو منحةٍ أو زيارةٍ لأقارب أو حتى سياحة؟".

وفي زوايا كل حديثٍ يتطرق إلى السفر والطيران بين أصدقائه، يعود حمزة إلى حيث كان صغيرًا يسمع بمطار غزّة الدولي، الذي دمرته "إسرائيل" عام 2007م بطائراتها الحربية، إمعانًا في قتل أي طريقٍ يصل بين الفلسطينيين والمستقبل من داخل قطاع غزو.

"أصبح المقيمون هنا، إن كُتب لهم السفر، يسافرون إما عبر حاجز بيت حانون "إيرز" وهذه استثناءات وفق المزاج الإسرائيلي، وإما من خلال معبر رفح البري عبر مصر، وفي كلتا الحالتين يمرّون بأعلى درجات العذاب، والإهانة، فقط لأنهم "فلسطينيون"" وفقًا لحديث حمزة.

وفكرة السفر بالنسبة للشباب هنا -بلسان حمزة- "حلم"، برغم أنها حق لأي إنسان في العالم. "هي فرصة للتخلص من قيودٍ تُحجّمنا وتحجّم طموحاتنا وأحلامنا، فالطائرة يمكن أن تكون هنا المنقذ الوحيد الذي يُشعرنا بالتحرر من قيودٍ، وعاداتٍ، وتقاليدٍ، تحاصرنا وتحاصر كل أحلامنا". يتابع.

حياة: صوت طيران الاستطلاع الذي لا يغيب، وصوت الطائرات الحربية التي تحمل معها إنذارًا بالأسى، فوق سماء غزة لا يمر سوى الطيران العسكري القاتل

قابلنا لنسأل عن "الطائرة" أيضًا "حياة"، تلك الشابة التي تمكنت من السفر للمرة الأولى في حياتها بعد أن بلغت من العمر 23 عامًا. حياة أبو عيادة قالت لـ "نوى": "سماع صوت الطيران في القطاع ينذر بالتصعيد، أو المناورات، أو بدوامٍ صحفي جديد لتغطية الأحداث"، مضيفةً على ذلك قولها: "هذه الأصوات جعلتنا نتذمر دائمًا، صوت طيران الاستطلاع الذي لا يغيب، وصوت الطائرات الحربية التي تحمل معها إنذارًا بالأسى، فوق سماء غزة لا يمر سوى الطيران العسكري القاتل".

في أولى تجاربها، بعد أن قُدّر لها السفر إلى تركيا للدراسة، تنبّهت "حياة" إلى أهمية أماكن الجلوس في الطائرة: "المكان قرب النافذة هو الأنسب لإلقاء النظرة على الحياة التي حرم الفلسطينيون منها داخل قطاع غزة سنواتٍ طويلة".

عرفت حياة الطيران حقيقةً، وخاضت تجربة ركوب طائرةٍ يختلف هدفها كليًا عن أهداف الطائرات التي تمر فوق سماء غزة، طائرةٌ تحملها نحو مستقبلها، ولا تسعى إلى الهدم والقتل ووأد الأحلام كما تفعل طائرات "إسرائيل".

تعقب: "برغم أنني شخص يحب المغامرات، الا أن الصورة التي نسختها الطائرات العسكرية في سماء غزة عن رؤيتنا للطيران جعلتني أخاف للوهلة الأولى".

يوم توجّهت حياة للطائرة، وجدت مقعدها قرب النافذة، هذه كانت واحدةً من أكبر أمنياتها، أقلعت الطائرة يومذاك، وأقلع معها قبل الفتاة بحماسة، كطفلة تلهو بلعبة في مدينة الملاهي، تطير بها السماء، ثم تحط على الأرض – تصف– وتكمل: "يطل الشباك على الغيوم، هذه الغيوم التي كانت تشبه سقف أحلامنا دائمًا، لوهلة نسيت الأصوات السيئة المحفورة بذاكرتي بسبب الاحتلال".

هبطت طائرة الشابة، ثم انتقلت إلى الفندق، فندقٌ بجانب المطار، أصوات محركاتٍ هنا، وطائراتٌ تحلق في السماء من هنا، طائراتٌ مدنيةٌ حقيقية لم تتخيلها "حياة" يومًا سوى كما رأتها بالصور، أصواتٌ طبيعية لا تنذر بالقصف ولا بالأسى ولا بالحزن، تعلق: "ياه، يا ليتني أعيش هذه اللحظات بغزة، ويعيشها معي كل الغزيين".

حصار يحاصره حصار، هكذا تبدو حياة الفلسطينيين في غزّة، نتأمل الإنسان هناك خارج حدود هذه البقعة المنهكة، كيف يشاهد "طائرةً" بيضاء ويُطلِق عليها اسم "مدنية"، كيف يركبها بشكلٍ عادي؟ وكيف ترتجف قلوبنا نحن المقيمون هنا، كلما سمعنا هدير واحدةٍ تمر بسماء مدينتنا؟

كيف لي أنا معدّة التقرير، أن لا أتنهّد حين أبدأ بتفريغ مقابلات الشباب الذين سافروا، وأنا أقارنها بأحلام العالقين هنا؟ أتأمل الحروف وأتحسس قلبي كلما كتبتُ كلمة "طائرة"، أنا لا أستطيع حتى تخيل لون السماء ولا شكل الأرض من الأعلى، ولا حتى تجاوز مسافة لمدّة ثلاث ساعات من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بسيارة! من يدري؟ لو فعلناها ماذا يمكن أن يحدث؟ قد نصطدم برصاصةٍ –وهذا أقل المتوقع- تُعدم أحلامنا وحياتنا لمجرد أننا فكرنا بأن "نعيش"..