مصابات البهاق يروين قصصهن مع سياط التنمر
تاريخ النشر : 2020-11-24 12:27

غزة- رفيف اسليم:

لم يكن ذلك اليوم عاديًا بالنسبة لأم شمس حين كانت تحضّرها للذهاب إلى طبيب أمراض جلدية في مدينة غزة، حول بقعة بيضاء ظهرت فجأة فوق عين الطفلة.

حينها؛ كادت شمس (اسم مستعار) تطير فرحًا باصطحاب أمها لها إلى (مشوار) دون أن تعي خوف الأم من أن يكون ما تعانيه هو مرض البهاق الذي لا علاج له.

تشيح الفتاة التي بلغت السابعة عشر عسر من عمرها وهي تسترجع ذلك اليوم جيدًا حين طلب الطبيب من أمها بعض التحاليل والأدوية، وما بين إبر ومراهم طبيبة مرتفعة الثمن أحضرها والدها دون أن تحقق فعاليتها وامتداد البقع إلى باقي أجزاء جسدها.

شمس:عشر سنوات منذ بدء علاجي وتكاليف باهظة للأدوية والمراهم، وإحساسي المستمر بأني مختلفة وسط نظرات الناس التي لا ترحم

"عشر سنوات مرت منذ بدء علاجي وتكاليف باهظة للأدوية والمراهم، وإحساسي المستمر بأني مختلفة وسط نظرات الناس التي لا ترحم وأسئلتهم التي تلسعني كسياط من نار"، تقول شمس.

تضغط شمس على عينيها بقوة وهي تخفي دموع عبثًا حاولت منعها: "الناس تتجنب التواصل معي أو لمس أي شيء ألمسه ظنًا منهم أنه معدي، هذا شعرت به خاصة مع زميلاتي في المدرسة".

إذن هو تنمّر المحيطين بها بات يذبح روحها منذ بدأت تكبر وتعي الحياة أكثر، وتسعى للاهتمام بمظهرها كما كل بنات جيلها، أسرتها حاولت تقديم الدعم النفسي والمعنوي لها، وشقيقتها الكبرى سعت دومًا لاطلاعها على قصص سيدات أصبن بذات المشكلة وتحدين الصعوبات ووصلن لأعلى المراتب مثل المذيعة لجين عمر، ما جعلها تبدأ بتقبّل نفسها.

"لكن، حبذا لو كانت هناك مؤسسات داعمة لنا نحن المصابات بمثل هذه الأمراض التي تجعلنا مختلفات"، تقول شمس التي ترى ضرورة أن يعي المجتمع طبيعة هذه الأمراض كي لا يستمر ذبح الفتيات معنويًا تارة بنظرات الريبة وتارة بالأسئلة الجارحة.

شمس توقفت عن تلقّي أي علاج نظرًا لعدم قدرة عائلتها على مواصلة دفع التكاليف وعدم تبنّي وزارة الصحة لعلاج هذه الأمراض، وهي ما زالت تنتظر أن تكبر وتتمكن من القيام بعملية ليزر سمعت أنها يمكن أن تكون حلًا.

وعد عانت من أسئلة الناس بل بعضهم اقترح أن تذهب إلى "شيخ ليقرأ عليها

تتفق مع رأيها الشابة وعد عابد (29 عامًا) التي ترى ضرورة وجود جهد مؤسساتي يدعم النساء المصابات بالبهاق وبمثل هذه الأمراض، من حيث التثقيف بطبيعتها وضرورة وقف التنمّر.

تخوض وعد ذات التجربة مع البهاق، ولكن الأمر أسهل بالنسبة لها، حيث أصيبت بالمرض منذ كانت في عمر (18 عامًا)، إذ بدأ ببقع صغيرة في يديها ثم أخذ بالاتساع حتى انتشر في كل جسمها لكنها استطاعت إيقاف الانتشار من خلال العلاج.

وتروي إنها لم تعاني بالتأقلم مع المرض نفسه بقدر معاناتها من نظرة المجتمع القاسية التي يذبحها بسياط الأسئلة الفضولية "من ماذا" و"كيف ستتزوجين"، بل وذهب كثيرون لاقتراح أن تذهب بها أمها إلى "شيخ ليرقيها" – يقرأ عليها آيات الرقية من القرآن الكريم- أو أن تذهب إلى شيخ لـ"يفك السِحر"، متجاهلين أنه مرض ويجب التعامل معه من خلال طبيب، مشيرة إلى أن وضع أسرتها المادي الجيد ساعدها في توفير العلاج باهظ الثمن.

ولم تستغرب وعد إصابتها بالبهاق، فهي تعلم أن أحد أجدادها كان مصابًا به، والعوامل الوراثية هي أحد أسباب الإصابة، كما ترجح أن حالتها النفسية التي رافقتها لدى ظهوره لعبت دورًا، وهذا ما استنتجته من خلال قراءتها المعمّقة عن المرض، مشيرة إلى أنها احتاجت وقتًا كي تتعامل مع الحالة النفسية لوالدتها في ذلك الوقت.

تكمل وعد حاليًا دراستها العليا في إحدى جامعات إيطاليا، لتطوّر من ذاتها كمحاضرة في الجامعات الفلسطينية، لكن ما لفت انتباهها هو تقبّل الفئة المثقفة من المجتمع لمظهرها والذي يختلف كليًا عن الأقل وعيًا، مشيرة إلى أنها ستحاول عقب أزمة كورونا المتابعة الطبية جراحيًا والذي اتفق حديثًا على نجاعته.

نور عانت على مدار السنوات الماضية من تنمّر المحيطين وأسئلتهم الفضولية

لكن قصتا شمس ووعد ليستا الصورة الكاملة لمصابات البهاق، فالشابة "نور 23 عامًا" لم تتقبل الحديث في الأمر لمراسلة نوى، واكتفت بالقول إن الأمر مؤذٍ لها بشدة خاصة أنه لا يوجد علاج، لكن سرعان ما اتصلت صديقتها المقرّبة معتذرة نيابة عنها لتروي هي حكاية نور.

"أصيبت نور بالبهاق منذ عدة سنوات ولم تستطع المتابعة بسبب سوء الحالة الاقتصادية لعائلتها، فتكلفة العلاج بحاجة إلى راتب ثاني"، تقول الصديقة، إلا أن الحالة النفسية لنور ازدادت سوءًا حين علمت بوجود علاج لكن تكلفته فقط كافية كي تجعلها لا تفكر بالأمر مطلقًا.

عانت نور على مدار السنوات الماضية كما غيرها من الفتيات من تنمّر المحيطين وأسئلتهم الفضولية التي لا تنقطع، والابتعاد عنها، بل إن الجميع يريد فقط أن يسأل ولا أحد يقدّم مساعدة ولو بدعم نفسي.

تقول صديقتها: "أرفض وصف نور بأنها مريضة هي سليمة تمامًا، رغم ظهور هذه البقع البيضاء على جلدها، هي ترفض الحديث في هذا الموضوع لأنه قاسٍ ومؤذٍ جدًا لها ولا تستطيع التحكّم بنفسها إن وجّه لها أحد سؤالًا".

أبو سرية: لا إحصائيات حول مصابي البهاق ولا يتلقون علاجًا في مستشفيات وزارة الصحة لأنه تجميلي وتكاليفه باهظة 

"ومرض البهاق هو ظهور بقع بيضاء في منطقة واحدة أو في عدة مناطق من جسم الإنسان نتيجة خلل في الخلايا الصبغية التي تنتج الميلانين أو توقّفها عن العمل" يقول الدكتور رائد أبو سرية استشاري الأمراض الجلدية بوزارة الصحة الفلسطينية بغزة.

وقد ترجع الإصابة به لوجود خلل في الجهاز المناعي لأسباب غير معروفة أو أسباب وراثية أو عوامل نفسية أو توتر مصاحب لبعض الأمراض- يضيف-.

يكمل: " لا يوجد إحصائيات حول عدد مصابي البهاق في قطاع غزة، وهم لا يتلقوا العلاج لدى مستشفيات وزارة الصحة التي لا تقدمه لأنه مرتفع التكاليف كما أنه يصنّف بأنه تجميلي"، ويتوقف نجاح العلاج على عدة عوامل منها عمر المريض ومدة ظهوره كما تختلف فعاليته من شخص لآخر.

إلا أنه قدّم وصفًا لطرق العلاج المتعارف عليها حاليًا للبهاق وهي موضعية مثل المراهم أو أدوية وحتى العلاج الضوئي أو العمليات الجراحية وتكون للبالغين من خلال نزع خلايا الجلد السليمة التي يعمل فيها الميلانين لتُعالج خارج الجسم، ثم تُزرع مرة أخرى في أماكن الإصابة حال كانت في مناطق محددة فقط، لكنه باهظ الثمن جدًا ولا يمكن لوزارة الصحة توفيره.