لماذا السودان؟
تاريخ النشر : 2020-10-31 19:51

تم الإعلان يوم الجمعة الماضي عن انتهاء حالة العداء بين السودان وإسرائيل، حيث وصف السودان ذلك بأنه اتفاق تاريخي. ويمكن اعتباره بالفعل اتفاقاً تاريخياً خصوصاً بالنسبة لإسرائيل، لأن تطبيع العلاقات مع السودان يرسم نقطة تحول هامة في منظومة تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية والتي لم تعد مقصورة على محور دول الاعتدال العربي، بل فتحت الأبواب واسعة على جميع الدول العربية. كما أن هذا الإنجاز الكبير لإسرائيل بمعاونة الولايات المتحدة يشرع استخدام الابتزاز السياسي ضد دول المنطقة التي يعاني معظمها من ضغوط سياسية واقتصادية بعد فشل ما عرف بثورات الربيع العربي، سواء لإجبارها لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل أو للقبول باتفاقات مجحفة بحق بلادها وشعوبها. كما سيمكن اتفاق التطبيع الإسرائيلي السوداني إسرائيل من امتلاك أوراق قوة إضافية سياسية وأمنية واستراتيجية في منطقة حيوية في الساحة الأفريقية تشمل البحر الأحمر ودول القرن الأفريقي ودول حوض نهر النيل.   
على الرغم من أن السودان تحول عن تحالفه مع إيران عام ٢٠١٦ في عهد الرئيس الأسبق عمر البشير، إلا أن السودان لا يشبه الإمارات أو البحرين بالنسبة للفلسطينيين، فهو بلد اشتبك بالفعل مع العدو الصهيوني، ووقف إلى جانب مصر في حروبها الثلاث معه. واستضافت الخرطوم قمة الجامعة العربية بعد هزيمة عام ١٩٦٧ والتي رفعت شعار اللاءات الثلاث، وطالما دعمت السودان شعباً وحكومة القضية الفلسطينية، واتهمت بتصدير السلاح لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» وحزب الله عبر البحر الأحمر، وكانت أحد أقطاب حلف الممانعة مع إيران. ولم تخفِ إسرائيل عداءها للسودان، فدعمت حركة التمرد في جنوبه منذ عام ١٩٦٨، وكانت من أوائل من اعترف بانفصاله عام ٢٠١١، كما كانت السودان هدفاً لغارات إسرائيلية استهدفت مخازن للذخيرة ما بين عامي ٢٠٠٩-٢٠١٢، فالسودان تُعتبر أولى الدول المطبعة مع إسرائيل من خارج محور دول الاعتدال، وثاني دولة عربية إفريقية تطبع علاقاتها مع إسرائيل بعد مصر وبعد أكثر من أربعين عاماً.
 إن ذلك يفتح باب التطبيع للدول العربية الأخرى في اطار جديد عابر للمحاور، كما أنه يمكن إسرائيل سياسياً على المستوى الأفريقي، فالسودان بسقوطه في براثن التطبيع أسقط الحرج عن أي دولة أفريقية لا تقيم علاقات مع إسرائيل بسبب القضية الفلسطينية. وكانت إسرائيل قد حققت نجاحاً ملحوظاً في التجاوز التدريجي لمقاطعة الدول الافريقية لها، والتي كانت تشكل أكبر كتلة داعمة للفلسطينيين في المحافل والمنظمات الدولية بعد عام ١٩٦٧. وكان لتطور العلاقات العربية مع إسرائيل دور كبير في ذلك الاختراق الذي حققته إسرائيل في إقامة علاقات مع أكبر عدد ممكن من الدول الأفريقية، بدءاً باتفاق كامب ديفيد عام ١٩٧٨، ومروراً باتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، وانتهاءً باتفاقات تطبيع العرب الأخيرة مع إسرائيل.
كما سيمكن اتفاق التطبيع مع السودان إسرائيل من الحضور بشكل أكبر على المستوى الأمني في منطقة الساحل الشرقي الافريقي والبحر الأحمر ودول القرن الأفريقي، خاصة في ظل الموقع الجغرافي الهام الذي يحتله السودان في هذه المنطقة. ويشكل البحر الأحمر والمنطقة الافريقية المطلة عليه أهمية استراتيجية ضرورية لأمن إسرائيل وتجارتها، لاسيما في ظل عدم وجود منظومة عربية واضحة تحكم الأمن في البحر الأحمر، كما ستمتلك إسرائيل بعلاقتها مع السودان ورقة جديدة في اطار دورها الاستراتيجي كوسيط في صراع دول حوض نهر النيل وبالتحديد بين مصر والسودان وأثيوبيا. وتُعتبر إسرائيل شريكاً رئيساً لأثيوبيا في إنشاء السدود والتي تشكل نقطة الخلاف الرئيسة بين دول الحوض. وتعتبر السودان ذات أهمية خاصة ليس فقط لأنها واحدة من دول الحوض، وإنما لأنها الدولة الوحيدة التي تمتلك حدوداً مع جميع تلك الدول.
جاءت موافقة السودان على إقامة علاقات مع إسرائيل في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة، فساومت الولايات المتحدة السودان، الذي  وضع على قوائم الإرهاب منذ عام ١٩٩٣، على رفع اسمه من قوائم الإرهاب مقابل التطبيع مع إسرائيل. إن رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب يعني تخفيف أعباء ديونها وتسهيل حصولها على التمويل والقروض وجذب الاستثمارات الأجنبية وتجاوز أزمتها الاقتصادية. ويعاني السودان من احتجاجات عارمة تجتاح البلاد، بعد مرور عام من سقوط حكومة عمر البشير الإسلامية، واستلام حكومة انتقالية لإدارة شؤونها لمدة ثلاث سنوات تمهد لانتخابات ديمقراطية. تأتي تلك الاحتجاجات في ظل استمرار تدهور الحالة الاقتصادية، خصوصا في ظل جائحة كورونا والفيضان الأخير، فارتفع مستوى الدين العام إلى حوالي ٦٠ مليار دولار، وانخفضت قيمة العملة. يأتي ذلك في ظل استمرار انقطاع الكهرباء ونقص البنزين والغذاء وانعدام الأمن، إذ اعتبرت الأمم المتحدة أن حوالى خُمس السودانيين يعانون الفقر.
ولا يمكن تجاهل دور الدول العربية المتحالفة مع إسرائيل وعلى رأسها الامارات في تحقيق إسرائيل لاهدافها في المنطقة. فجاء اتفاق التطبيع الإسرائيلي السوداني بدعم ومساندة إماراتية صريحة وسعودية ضمنية ومباركة مصرية. وكانت الإمارات قد رعت في شهر شباط الماضي لقاء جمع عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في أوغندا، تبعته زيارة مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي إلى السودان أواخر شهر آب في إطار المساعي التمهيدية لذلك الاتفاق التطبيعي. ورغم رفض عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الربط بين حذف السودان من قائمة الإرهاب والتطبيع مع إسرائيل، الا ان قرار التطبيع مع إسرائيل جاء بموفقة من البرهان ونائبه والقادة العسكريين. فقد اعتبر حمدوك أن السودان يستحق بالفعل رفعه من تلك القائمة لأنه غيّر من سياساته تجاه دول المنطقة، كما أن اتفاقاً سياسياً حساساً كاتفاق التطبيع مع إسرائيل يحتاج لإقراره من حكومة منتخبة وليس حكومة انتقالية على حد قوله.
ورغم اشتراط السودان موافقة البرلمان على اتفاق التطبيع مع إسرائيل، الا أنه لم يشكل برلمانه بعد، وهو الذي كان يفترض أن يعمل خلال الفترة الانتقالية التي تمتد ما بين عامي ٢٠١٩ و ٢٠٢٢. وقد يمارس الاجتماع المشترك لمجلس السيادة العسكري ومجلس الوزراء المدني صلاحيات البرلمان لاقرار اتفاقية التطبيع، خاصة وأن الفصائل المدنية المعارضة للاتفاق لم تنظم احتجاجات ذات مغزى ضده كما أنها لم تنسحب من الحكومة، بالإضافة إلى مباركة الاتفاق من قبل حركة تحرير السودان، التي تعتبر أقوى فصيل من فصائل الجبهة الثورية السودانية المتمردة.  
ويترأس حمدوك حكومة مدنية تم تشكيلها من خلال صيغة للشراكة مع القادة العسكريين، الذين يسيطرون فعلياً على البلاد. جاءت تلك الشراكة بعد توسط أميركي بريطاني سعودي إماراتي لإبرام اتفاق لتقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين، في أعقاب الاضطرابات التي جاءت بعد الإطاحة بالبشير عام ٢٠١٩. وتدعم السعودية والإمارات المجلس العسكري السوداني ورئيسه برهان، وقدمت البلدان للسودان في أعقاب الإطاحة بالبشير مساعدات مالية بقيمة ثلاثة مليارات دولار. وكانت السعودية والإمارات قد ضغطتا على البشير لقطع علاقته مع إيران عام ٢٠١٦ وقدمتا معونة مالية كبيرة للسودان في سبيل ذلك، وأجبرته على إلغاء عقود مع تركيا وقطر لتطوير الميناء تم إبرامها في شهر آذار من العام الماضي. وتعتبر الإمارات المستورد الأول لصادرات السودان من الذهب والسعودية المستورد الأول للمواشي.     
السودان ذهب إلى التطبيع تحت وطأة ضائقته الاقتصادية تماما كما ذهب لبنان قبله إلى مفاوضات حول حدوده البحرية تحت عبء نفس الضغوط الاقتصادية تقريباً. وقد تذهب سورية أيضا لمفاوضات مع إسرائيل في لحظة من اللحظات تحت ضغوط مشابهة. إن العديد من الدول العربية قد تكون الهدف القادم في استغلال انتكاساتها لإجبارها على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل حسب تلك الاستراتيجية الأميركية والتي لن تتغير حتى وإن تغيرت الإدارة الحاكمة. وقد بات جلياً أن الدور الذي تأسس حلف دول الاعتدال من أجله مع إسرائيل وبرعاية أميركية في منطقة الشرق الأوسط  لم يأتِ فقط لمحاصرة النفوذ الإيراني حسب ادعائهم، وإنما جاء ليرسخ وجود إسرائيل ومكانتها في المنطقة أيضاً.