ثمانينية تعلم "الرياضيات" لأطفال عمارتها المحجورين بغزة!
تاريخ النشر : 2020-09-29 22:04

يلتف عدد من الفتية حول الثمانينية "إكرام الأسطل"، يستمعون إليها بشغف، ويرقبون تنقلات رأس القلم الذي تحمله، بين مسألةٍ وأخرى في كتاب الرياضيات، تكرر الشرح مرتين وثلاث، حتى تتأكد أن كل من على الطاولة فَهِم.

إكرام التي تتابع مع عدد من أبناء سكان العمارة التي تعيش فيها، دروس العلوم والرياضيات التي يصعب فهمها دون مدرس، ابتعدت عن سلك التعليم فعليًا منذ ما يقارب الربع قرن.

هنا وجد الطلبة ضالتهم، بعد أن تعذر انضمامهم إلى صفوف التعليم الوجاهي في مدارسهم بسبب "كورونا"، فبرغم عمر "إكرام" الكبير، إلا أنها لطالما فتحت أبواب قلبها وعقلها لأبناء الجيران، تدعوهم لينهلوا في بيتها علمًا لا يخلو من العظة، في مشهدٍ لا يبدو "غريبًا" على السيدة التي يكن لها الجميع كل الحب والاحترام.

تقول لـ "نوى": "لطالما أحببت الرياضيات، رغم أنني تخرجت من كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، لكنني فعليًا درست العلوم والرياضيات في غزة، ومن ثم في دولة البحرين، لما يقارب أربعة عقود".

تحتفظ الحاجة إكرام بدفاتر التحضير القديمة في أدراج مقفلة، كما تحتفظ بالعلم راسخًا في رأسها، لم تمحُهُ السنين الطويلة، إذ سرعانَ ما استحضرته مع سؤال أول طارقٍ محتار في نظرية هندسة، أو معادلة حساب، وهي التي أمضت سبع سنوات في التعليم الحكومي، بعد عودتها إلى غزة برفقة زوجها، إثر توقيع اتفاقية أوسلو، قبل أن تصل إلى سن التقاعد.

عاشت الحاجة "إكرام" في مدينة غزة  وحيدةً بعد وفاة زوجها، لا يؤنس وحدتها تلك سوى جيرانٍ كانوا لها بمثابة أهل، وكانت هي لهم أمًا تحنو وتنصح. تقول: "أؤمن تمامًا بمقولة: الجار للجار، لقد وجدتُ في قلوب جيراني متسعًا من الحب الذي زرعته خلال سنين طويلة".

عن الجارة النقية التي يمتلئ قلبها حبًا للجميع، تتحدث الجارة  أم حسام أبو ريا فتقول: "ليست هذه المرة الأولى التي تبادر الحاجة إكرام لمساعدة أبنائنا، منذ سكنت البناية وهي تنسج علاقاتٍ طيبةٍ مع الجميع، لا يمكنني أن أنسى أنها كانت تساعد أبنائي  الخمسة أثناء دراستهم، بحكم أن بابي يقابل بابها"، مردفةً: "كان وكأنما بيتنا واحد، كان طبق طعامها  يلف على جميع الجيران،  وما زال، رغم كبر سنها".

أبناء أم حسام الذين تتلمذوا على يد الحاجة الثمانينية، هم اليوم ذوي شأن، وجميعهم يعدّونها أمهم الثانية، "لا يمر عيد إلا وتتلقى الهدايا بمناسبته من جميع سكان البناية".

ولا تنسى أم حسام ما كانت تفعله "إكرام" بعد عودتها من زيارة أهلها جنوب قطاع غزة، عندما كانت توزع ما لذ وطاب من خيرات الأرض على الجيران جميعًا دون أن تنسى أحدًا منهم.

لم تترك الحجة إكرام منزلها يومًا، لا هربًا من قصفٍ، ولا خوفًا من اعتداء اسرائيلي، بل كانت ولا تزال لا تشعر بالأمان إلا فيه، وسط جيرانها الذين يتسابقون لخدمتها، ونيل رضاها  كما لو كانت أمهم –وفق ما ذكرته أم حسام.

ترجع الحاجة إكرام ذاكرتها القوية، لقراءتها المستمرة للقرآن الكريم، وتمسكها بالغذاء الصحي، وهو ما تؤكده الجارة الودودة بقولها: "كانت الحاجة دائمًا ما تجلب نوعًا من الطعام من مدينة خانيونس يسمى بـ "المختوم" وهو صحي جدًا، وكنا ننتظره بفارغ الصبر منها، لعله السر في صحتها وقوة ذاكرتها".

الجار القريب خير من الأخ البعيد، هذا ما يؤمن به غالبية سكان البناية، ما دفعهم إلى رعاية الحاجة الوحيدة، والسؤال عنها بين كل حين وآخر. الخمسينية أم أحمد  ضاهر على سبيل المثال، تحرِصُ على متابعةِ أحوال الحاجة إكرام، باعتبارها أحد أفراد العائلة، فتحضّرُ طعام الإفطار لأبنائها، ثم تأخذ جزءًا منه لبيت الحاجة إكرام، التي تكون بانتظارها، كي تتناولا فطورهما معًا.

تؤكد أم أحمد أنها وجدت أمها البعيدة في شخص الحاجة إكرام، عن ذلك تتابع: "أشعر بالمسؤولية تجاهها وكأنها أمي، لا يمكنني أن ارتاح دون أن أطمئن إلى أنها بخير، حتى إذا حدث معي أي طارئ، واضطررت للغياب عن المنزل، أمر عليها لأخبرها به، وأحاول تلبية أي احتياج لها قبل خروجي".

لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الجارة أم أحمد تقوم بمتابعة أوضاع الحاجة الصحية، وقد أمنت لها ممرضةً من سكان البناية تعطيها بعض الحقن لآلام العظام، من أجل ضمان عدم نزولها للشارع وتعرضها للإصابة بفايروس "كورونا" من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، كي تغنيها عن صعود ونزول الدرج لعدة طوابق كلما جاء موعد الحقنة.

لم تتوقف الحاجة "إكرام" عن ممارسة مهنتها التي أحبَّتها ومارسَتها طوال حياتها، ففتحت بيتها لأبناء الجيران ينهلون من بحر علمها الذي لا ينضب، دون أن تركن إلى ما يفرضه سن الثمانين من قواعد على صاحبه، حتى يصل به إلى حد أن يُشعره أن مهمته في هذه الحياة انتهت. تقول الحاجة إكرام في ختام حديثها لـ "نوى": "العطاء غير مرتبط بعمر، لن أتوقف عن تعليم ما أعلم، حتى آخر نفس".