الحريري يتجرع كأس السم مرة أخرى
تاريخ النشر : 2020-09-26 17:11

عادت مفاوضات تأليف الحكومة اللبنانية إلى المربع الأول لكن بمعناها الإيجابي هذه المرة، وفق شكل يكفل إعادة ترتيب المشاورات الحكومية تمهيداً لاستيلاد تشكيلة سريعاً، إنتاجها محلي ودعمها فرنسي. ولأول مرة يدخل الرئيس المكلف قصر بعبدا، ومعه ظرف أسود، عبارة عن مسودة لتشكيلة حكومية. والحديث عن عودته خلال أيام. بعدما كانت الحكومة عالقة على حبال التشاور والتريث والمبادرات والدلال السياسي والشغب الأميركي والرفض السعودي والإصرار الفرنسي والفرملة الإيرانية، وكأن الجميع يملكون ترف الوقت، في حين ينتظر اللبنانيون الفرج من الله.
ولكن سعد الحريري قرر «تجرع كأس السم» عبر قبوله أن تبقى حقيبة المال مع الطائفة الشيعية، على قاعدتين اثنتين، أولهما أن يتولّى رئيس الحكومة المكلّف مصطفى أديب حصراً تسمية الوزير الشيعي، وثانيهما أن تكون تلك القاعدة لمرة واحدة فقط لا غير.
 كان البعض منذ البداية يذهب باتجاه أنه في الإمكان وتحت وطأة العقوبات الدولية والغيمة السوداء المنبعثة من انفجار المرفأ، والحضور الفرنسي المكثف بشخص ماكرون، ان يفرض تعديلات جوهرية على الخريطة السياسية في لبنان، او بالأحرى يجري عملية «تهذيب» على شكل حضور الثنائي الشيعي ضمن الإدارة السياسية الجديدة. لكن تشدد الثنائي، على وقع الكباش بين أميركا وإيران، وصل إلى حدود إلى إبلاغ رسائل أن لا حكومة ولو بعد 100 سنة في ظل طروحات تُعدم مكتسبات الطائفة الشيعية في لبنان، أو تخرجها من الطبعة السياسية الجديدة.
لقد اكتشف سعد الحريري، بأن المخاطر من جراء ذلك أكبر وتتعدى سقوط المبادرة الفرنسية، إلى سقوط الوطن، ووضع لبنان على إحدى حافتين؛ الأولى: حافة التمهيد لصيغة لبنانيّة جديدة ونظام حكم مختلف، والثانية: حافة الوقوع في الهاوية العميقة جراء تكريس فشل نظام الطائف.
وبات همه الأكبر كيفية إنقاذ الوضع اللبناني من الانزلاق صوب سيناريوهات أصعب في ظل ضياع عملية التأليف في خنادق مذهبية طائفية ميثاقية تعوم على بحر من الخلل الاقتصادي والازمة المالية والضياع القديم في الهوية. من هنا، أعادَ سعد الحريري ضبط ساعته على الساعة الفرنسية، وغرد بعيداً عن سرب نادي الرؤساء السني، الذي اصر على مبدأ المداورة في الحقائب.
لقد مر سعد الحريري بمرحلتين منذ إطلاق رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون مبادرته لإنقاذ لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت.
في الأولى شعر بفائض قوة، ذلك أن الحكومة التي اقترحها الفرنسي، عدداً ومهمة، تنسجم مع قناعاته ومع ما يسعى إليه.
أما في المرحلة الثانية فقد شعر الحريري بالإحباط الشديد جراء تمسك الثنائي الشيعي، بحقيبة المالية ورفضه مبدأ المداورة في تسلم الحقائب الوزارية.
وهذا ما دفعه إلى إعلان أن مبادرته شخصية، لتسهيل ولادة الحكومة، ولا تمثّل نادي رؤساء الحكومات الذي ينتمي إليه فؤاد السنيورة وتمّام سلام ونجيب ميقاتي.
وهذا ما يدفع الحريري إلى ممارسة سياسة «ضربة على الحافر وضربة على المسمار» في المطحنة السياسيّة الدائرة والدافعة للبلاد اقتصاداً وعُملة وأمناً ودولة ونظاماً إلى الانهيار.
لقد حاول الحريري مد الحياة في عروق تأليف حكومة مصطفى اديب، بعدما رمى الطابة في ملعب الثنائي الشيعي عقب نفض يديه من تهمة عرقلة قيام الحكومة عبر تجرع كأس التنازل مرة جديدة.
وهو الذي تجرعه أول مرة، عندما انخرط بالتسوية الرئاسية مع ميشيل عون، على عكس رغبة المملكة السعودية.
لكن الخوف الآن من مرحلة ما بعد تأليف الحكومة.
الخوف الأكبر، هو من اللوحة الأبرز، التي تشكلت بعد خطاب العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز.
أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، واتهام حزب الله، بالتسبب في تفجير مرفأ بيروت، ومطالبته بنزع سلاحه، وذلك في عز الكلام عن مخارج للازمة الحكومية، والعمل على تعويم المبادرة الفرنسية عبر ما طرحه الحريري لحلحلة الموقف الشيعي.
وفي ذلك موقف سعودي غير مسبوق، كل ذلك يؤشر، بما لا يدع مجالا للشك، على أن المملكة لا توافق على المبادرة الفرنسية، وترفض تمثيل الحزب في الحكومة وإعطاء حقيبة المالية الى وزير شيعي..
 
موقف الملك سلمان وما يحمله من رمزية ترتبط بالجمعية العامة للأمم المتحدة أعاد خلط الأوراق من جديد، ما يشير الى حجم التجاذبات الاقليمية والدولية القائمة حول لبنان، والتي قد يكون لها تداعيات سلبية جداً على ولادة وعمل حكومة مصطفى أديب، والأهم أن كلمة الملك سلمان، جاءت لتؤكد أنه لا تعاون مع أية حكومة لبنانية ما دام لحزب الله أي ظل فيها.
كما أن الترجمة الفعلية لهذا الموقف ستظهر عند أول مؤتمر دعم للبنان، عندما سيتبين شح المال الذي سيحصل عليه لبنان، لأن أبواب الصناديق المالية لا تزال مقفلة وقرار فتحها في مكان خارج البلاد، وتحديداً على طاولة المفاوضات الاميركية الايرانية.
ولا يبدو استعجال ولادة الحكومة اللبنانية بعيداً عما يجري في المنطقة. وقد ورد الى بيروت تحذير دبلوماسي أوروبي أكد أنها تنظر، بكثير من القلق، الى التصويب على حزب الله وسلاحه، في كلمة العاهل السعودي.
ودعت الى الإسراع في «ضبضبة» الملف اللبناني سريعاً، وبواعث القلق سببها التحولات الاستراتيجية المتسارعة في المنطقة في ظل عملية التطبيع بين دول عربية وإسرائيل.
على كل حال، لقد طرح الموقف السعودي أكثر من سؤال حول ما قصده الرئيس سعد الحريري في بيانه حول «تجرعه السم»، فهل كانت مبادرة الحريري بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على علاقته بالمملكة.
وخصوصا، أن الحريري لمح في بيانه، أن خطوته ستخسره حكماً داخل بيئته السنية وشارعه، في ظل ما يشاع بأن شقيقه الأكبر بهاء الحريري، يتأهب لمعركة «الوراثة السياسية» مع أخيه سعد، وهو سارع إلى ملاقاة الموقف السعودي، بإصداره بياناً يطالب بنزع سلاح حزب الله.