غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"علاقةٌ خاصة تربطني بهذه الحجارة"، هكذا اختصر محمد السوافيري حكاية العشق التي جمعته بالآثار منذ نعومة أظفاره. قالها وهو يحتضن بين كفيه حجرًا أخذه من "كومةٍ" كانت تحتل أرضه المكتظة بالأعمدة والقطع الصخرية والأثرية، التي تمَكّن من جمعها على مدار خمسة أعوام.
وُلِد السوافيري وترعرعَ وقضى سنوات طفولته في منزلٍ أثري في منطقة "غزة القديمة"، التي يراها "قلب" مدينة غزة، وتقع على بحرٍ من الكنوز الأثرية، التي أتى عليها الزمن وتوارت في باطن الأرض، "أما ما بقي منها فوق الأرض فلم يسلم من أيادي العبث" يقول.
ويشعر السوافيري (36 عامًا) بكثير من الألم والمرارة، عندما يشاهد إقدام البعض على هدم مبانٍ أثرية، من أجل إقامة مبانٍ خرسانية حضرية، متسائلًا: "كيف لنا أن نهدم تاريخنا بأيدينا؟".
هذه المشاهد التي يصفها بالمؤلمة، هي التي شكلت دافعًا له منذ نحو خمسة أعوام، كي يُحوّل حبه الفطري للتاريخ والآثار، إلى هدفٍ نبيل يتعلق بحماية الجذور، وحفظ التاريخ.
بداية الرحلة
رغم أن السوافيري لم يعد يقطن في منطقة "غزة القديمة"، إلا أن ذاكرته لا تزال حيّة، ويشعر بحنين دائم لأيام الطفولة والصبا، عندما كان يلعب مع أقرانه في أزقة المنطقة التي تعج بالمباني الأثرية ما بين منازل ومساجد، وفيها "حمام السمرة" الذي يتجاوز عمره 800 عامًا، وهو الوحيد الذي صمد بين حمامات كثيرة اندثرت مع مرور الزمن.
وعن بداية رحلته مع جمع القطع الحجرية والصخرية الأثرية، فقد بدأت الحكاية عندما كان شاهدًا على إقدام العديد من أصحاب المنازل الأثرية على هدمها، والتخلص من "الركام الأثري" بإلقائه في البحر أو في مكبات النفايات، من دون أي اكتراث لقيمته وأهميته التاريخية بالنسبة للشعب الفلسطيني، الذي يعاني احتلالًا قائمًا على تزييف التاريخ وقلب الحقائق والوقائع.
العديد من أصحاب المنازل الأثرية أقدموا على هدمها، وتخلصوا من "الركام الأثري" بإلقائه في البحر أو في مكبات النفايات، من دون أي اكتراث لقيمته وأهميته التاريخية بالنسبة للشعب الفلسطيني.
ومن هنا –يضيف السوافيري- كان لابد من مبادرة، حتى لو بجهود ذاتية، متابعًا: "بدأت منذ خمسة أعوام في جمع الحجارة والصخور والأعمدة الأثرية، لحفظها من الضياع والاندثار".
فقر ثقافي
بكثير من الأسى يواجه السوافيري عمليات هدم المباني الأثرية، ويبذل جهدًا كبيرًا مع أصحاب هذه المباني لثنيهم عن الهدم، لكنه يقر بأن الكثير من محاولاته تبوء بالفشل، وتنهال معاول الهدم بقسوة لتسوّي بالأرض تاريخًا يضرب في أعماق هذه البقعة الجغرافية الصغيرة.
ويرجع ما تتعرض له آثار غزة ومبانيها التاريخية من إهمال وضياع، إلى سببين هما: "الفقر الثقافي، وغياب الوعي لدى عامة الناس بأهمية التاريخ والآثار، ثم الانقسام الداخلي وغياب الاهتمام الرسمي".
وما يزيد حسرة السوافيري وألمه على ما تتعرض له الآثار في غزة، أنه في الوقت الذي تتهاوى فيه المباني بفعل الهدم والإهمال من جانبنا كفلسطينيين وأصحاب حق تاريخي على هذه الأرض، يسابق الاحتلال الوقت لتزييف التاريخ ومحاولة خلق أي رابط له بهذه الأرض، فيعمد إلى حفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى المبارك، وتغيير هوية المعالم التاريخية الفلسطينية، وتغيير أسماء المدن والشوارع.
وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، جمع السوافيري أكثر من ألفي قطعة من الحجارة والصخور والأعمدة الأثرية، حفظها في قطعة أرض ورثها عن أسرته، بينما لا يكتفي بما يجمعه من ركام المنازل الأثرية، بل يشتري من ماله الخاص كل ما يتوفر أو يقع بين يديه، يقول: "تنازلت عن كثيرٍ من أولوياتي الحياتية، من أجل توفير المال اللازم للمضي قدمًا في مبادرتي هذه".
ولا يكترث السوافيري بعبارات الاستهجان من قبل البعض ممن لا يروق لهم ما يفعله، أو يجدون فيه مضيعةً للوقت والجهد والمال، وأن جهة رسمية هي من يجب أن تفعل ما يفعله هو، مؤكدًا أن غياب الرقابة والاهتمام الرسمي، لا يعفيان الفرد من مسؤولياته إذا كان بمقدوره أن يحمي تاريخه.
حلم القلعة
يصف السوافيري ما يمتلكه بأنه كنز، ويحلم بأن يتمكن يومًا من تحويل الحجارة المتناثرة والمتكدسة لديه، إلى قلعةٍ تروي تاريخ حضارات متعددة تعاقبت على فلسطين التاريخية، ومنها غزة التي كانت على مر الزمن طريقًا عسكريًا وتجاريًا مهمًا.
وأوضح السوافيري أن تاريخ الحجارة والأعمدة التي نجح حتى اللحظة في جمعها، تعود إلى أزمنة الكنعانيين، والبيزنطيين، والعثمانيين، وغيرهم، وتتكون من أربعة أنواع، هي: الرملية والصخرية والجيرية والرخامية، "وكلها تثبت أن جذورنا ممتدة في أعماق هذه الأرض" يعقب.