عن ماكرون وفيروز
تاريخ النشر : 2020-09-05 12:45

أخيرا، كشفت فيروز الستار عن صمتها، أنارت المعبد، وأطلّت، مرة أخرى، على محبيها الذين اشتاقوا أن يروها، مغنية أو متحدثة، أو ملتحفة بالصمت، لا يهم، طالما أن فيروز، في ذكرى مئوية لبنان، بخير.

لم يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في زيارته الثانية للبنان، سوى فيروز يلجأ إليها في زمن الكآبة. أراد ماكرون أن يطّل على اللبنانيين، في اليوم الأخير من مئوية لبنان الكبير، مِن منزل مَن ارتبط اسمها باسمه على مدى سنوات طويلة، فكانت تلك «الشمعة على دراجه». إنها فيروز، التي اختارت أن تكون في الظل، وهي التي لم تحتج إلى الضوء لأنها كانت «ضو القنديل» في مسرحيات لبنان الجميل، ولعل الرئيس الفرنسي أراد تذكير اللبنانيين بالجسر الأخير الذي عاند العواصف وهو جسر فيروز.
ماكرون يعرف تماما تاريخ لبنان، ويعرف أن فيروز والأخوين الرحباني كانا جزءا من هذا التاريخ، وقد اجتمعت العبقرية مع الصوت السماوي، الذي وصل إلى النجوم. لبنان الذي نسجته مخيلة عاصي، ومنصور الرحباني، وغنته فيروز لا يشبه لبنان الحالي، الذي لم يعرف اللبنانيون على مدى مئة سنة أن ينتشلوه من مفهوم «المزرعة» إلى مفهوم الدولة لكل مواطنيها.
في نهاية تجربته في الحكم، قال الرئيس الراحل فؤاد شهاب، «لقد استطعت أن أبني دولة ولكنني عجزت عن بناء وطن»، لكن الرحابنة، ومعهم فيروز، بنوا وطنا جميلا غير الوطن الذي يعرفه اللبنانيون، وقد سقطت عند أقدامهم صورة «راجح الكذبة» ليطل فجر أيام فخر الدين، وما حوته المسرحيات البعلبكية: جسر القمر وعودة العسكر والليل والقنديل وبياع الخواتم وهالة والملك وجبال الصوان ويعيش يعيش وصح النوم وناس من ورق وناطورة المفاتيح، من وطن جميل وحلم جميل.
لم تطل فيروز من شرفتها لتلوح بمنديل السفر للملايين، الذين عشقوا صوتها، بل اكتفت باستقبال الضيف الكبير ماكرون دون كاميرات، وهي التي أتعبها الضوء، ولتقول له شكرا لك، «خلي عينك ع لبنان».
وببساطة ووداعة كان اللقاء، وربما رنمت فيروز أغنية في اللقاء: «وطني يا صغير ووسع الدني .... يا وطني».
وريث الجنرال غورو، ذهب إلى فيروز وباح لها بحنينه، إلى زمن لبنان الجميل، إلى لبنان جار القمر، إلى لبنان الثقافة، إلى صوت فيروز، حيث الصوت يجمع الحلاوة إلى الخفر ويتدرج في تلاوين المخمل، في شعر عامي مصفى ومرمز، يأخذنا إلى عالم فيروزي الألوان ومائي الإيقاع بروح ريفية نقية.
وصف ماكرون فيروز بعد لقائه بها بأنها «جميلة وقوية للغاية، وشعرت بالرهبة أن أكون أمام ديفا مثل فيروز.. هذه الفنانة الوطنية وأن أرى جمالها وهذا السحر الذي تتمتع به، وهذا الوضوح السياسي والوعي السياسي، وهذه الثقافة.. وهي من ثقافة لبنان».
لم يولد لبنان قبل قرن، فارغا من مضمون، بل جاء محمولا بمفكرين متنورين. فقبل إعلان الجنرال غورو عن الدولة الوليدة من مرفأ بيروت، بمائة سنة كانت مدرسة «عين ورقة»، أم المدارس في الشرق، قد فتحت أبوابها، و»عينطورة» تشحذ العقول و»الجامعة الأميركية» تخرج طلابها وكذلك «الجامعة اليسوعية». حتى مدرسة «تحت السنديانة»، البدائية التي عرفها كبار الكتاب، كانت منهلا للثقافة. لكن لبنان طعن في كرامته، فهو بالنسبة لعدد غير قليل ليس سوى نوادٍ ليلية بين الأزقة المظلمة. لكن هذا القول يتجاهل أضواء الجادة الكبرى: جادة الجامعات والمعاهد ومراكز الفكر وحركات التراث، إضافة إلى ما سمّاه المؤرخ الشيوعي أرِك هوبسباوم، تيارات التحديث التي انبثقت من هذا الحوض المتوسطي كما خرجت منه في العصور القديمة تيّارات التعليم والتجارة وحروب هنيبعل.
إيمانويل ماكرون، يعرف - على عكس السياسيين اللبنانيين - أن الرمز الثقافي قد يكون ملجأ في لحظة الأزمة الكبرى، ووطنا لمن لا وطن لهم، خصوصا عندما يشتد التباعد بين الينابيع التي يشرب أبناء الوطن الواحد منها والقواميس التي يحتكمون إلى مفرداتها.
لكن وريث الجنرال غورو، ربما نسي أن صوت فيروز مشى بالحلم من جبل صنين إلى جبل حرمون، حاملاً معه دمشق والقدس، كأن صوتها وحد بلاد الشام التي مزقها اتفاق سايكس بيكو، واحتقر الخريطة التي رسمها الجنرال غورو وهو يؤسس دولة لبنان الكبير.
يعرف ماكرون أنّ دولة لبنان الكبير التي أعلنها الجنرال غورو قبل مائة عام تلفظ أنفاسها. وأنَّ اللبنانيين أمضوا عمرهم يحكمهم جنرالات أقاموا جزرا، تتجلى براعتهم في تشييد الجدران.
من يدري، ربما يكون لبنان الذي ولد قبل قرن جاء قبل أوانه. ولد بشرفة، لم يكن اللبنانيون جاهزين لشرفة بهذه الصعوبة.
شرفة لتوفير مظلة لخائفين على حريتهم أو ثقافتهم أو أسلوب عيشهم.
مائة عام، لا يزال النقاش حول «لبنان الكبير» قائماً: مرة بالمحبة، ومرة بالازدراء، ومرة باستعادة الدعابات التاريخية.
القوى الكبرى هي التي رسمت العالم كما نعرفه، اليوم، لغايات سياسية واقتصادية، واستناداً إلى وقائع اجتماعية. باستثناء فلسطين، حيث أزيل وطن لإقامة آخر، الباقي كان مزارع ومنابت «طبيعية». ولأن هذه المنطقة كانت في الماضي أرض امبراطوريات وفتوحات، أصبحت بعد زوالها وانحسارها أرض أعراق وإثنيات ولغات ولهجات.
كتب الأستاذ جهاد الزين: «لبنان اختراع رائع». قد يعتذر المرء من التاريخ، لكن الجغرافيا حالة لا يمكن الاعتذار عنها. وفي هذه الجغرافيا الصغيرة، قبل غورو وبعده، مد حضاري بقي صامداً.
ورغم محنه الداخلية أو الإقليمية، «واختراع» يتعثر على الدوام ويصطدم ينسى الذين يعتبرونه مجرد كيانٍ طُفيلي في الأمة، أن من هذه الفسحة الصغيرة صدرت التيارات القومية، وفيها انتعش الصراع الفكري، وفي ملاذها نَعُمت الموجات الأدبية والعطاءات والمواهب بحرّية النمو ورحابة الانتشار.