انفجار بيروت: الجريمة التي وضعت لبنان على المحك
تاريخ النشر : 2020-08-15 18:23

يبدو أن الهجوم المدمر الذي تعرض له مرفأ بيروت ليس الا مجرد بداية لأيام وربما شهور صعبة تنتظر لبنان، اذا لم يتم تدارك تبعاته. لحظات صعبة يمر بها لبنان الان، فبالرغم من أن دماء ضحايا الانفجار لم تجف بعد، والمستشفيات تعج بآلاف المصابين، وجدران المدينة مدمرة وكأن عاصفة خبيثة زلزلت أركان عروس العواصم العربية وحولتها إلى ركام، تعم أنحاء البلاد موجة غضب شعبي عارمة، موجهة لإسقاط النظام العاجز، في مشهد يرسم بوضوح قسوة تلك اللحظات وحالة التخبط التي يعيشها لبنان. جاء هذا الهجوم المدمر في ظل أزمة إقتصادية وإجتماعية وسياسية لبنانية معقدة. فيعاني النظام السياسي اللبناني من حالة استقطاب سياسي حاد عكست حالة الانقسام الطائفي الكبيرة في البلاد، والتي أنتجت عبر سنوات عديدة حالة من الفساد المستشري أوصلت البلاد في النهاية إلى أزمة إقتصادية عارمة. فوصل إجمالي ديون لبنان نهاية عام ٢٠١٩ إلى حوالي ٩٢ مليار دولار، وانخفضت قيمة الليرة اللبنانية إلى مستوى لافت، وارفعت نسبة البطالة بين الشباب الى ٤٠٪؜.

في أكتوبر من العام الماضي، بدأت موجة حراك شعبي طالبت باسقاط الحكومة واجراء انتخابات نيابية مبكرة واستعادة الأموال التي سرقت، فاستقالت حكومة (سعد الحريري)، والتي تمثل قوى ١٤ آذار وتيار المستقبل. بعد شهرين تقريباً، جرى تكليف (حسان دياب) بتشكيل حكومة جديدة، اعتبرت قريبة من تيار ٨ آذار وحزب الله. في إبريل الماضي، جاءت جولة ثانية من الحراك الشعبي، في ظل استمرار أزمة الودائع وعدم القدرة على تحريرها واستمرار سقوط قيمة العملة اللبنانية، فتركز غضب الحراك هذه المرة ضد مصرف لبنان والمصارف الأخرى في البلاد. ورغم أن حراك الشارع اللبناني اليوم، والذي أعقب انفجار مرفأ بيروت، يأتي ضمن سلسلة تلك الجولات، الا أنه يعتبر أخطرها على الاطلاق. فجاء في ظل ظروف شديدة التعقيد، فلا انتخابات نيابية جديدة حدثت، ولا بنية وتركيبة النظام السياسي والطبقة الحاكمة تبدلت، ولا أموال مسروقة استردت، وتبعات الإغلاق المتعلقة بأزمة كورونا زادت من تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد، فجاءت ويلات الإنفجار لتزلزل ما تبقى من المشهد اللبناني.

الا أن هناك عدد من المعطيات التي لا يمكن تجاوزها لفهم تطورات ذلك المشهد. فرغم عدم نجاح الحكومة الجديدة في احداث اختراق حقيقي يحل مشاكل البلاد المستعصية وعلى رأسها الأزمة المالية، وتراجع الدعم العربي والغربي للحكومة الجديدة، الا أن هناك تطوراً اقتصادياً مهماً كان يمكن أن يغير الكثير من الواقع اللبناني إذا اكتمل، ولم يكن يرض الكثير من الأطراف المترقبة. تمثل هذا التطور بالاعلان عن تدشين مرحلة استثمارات صينية ضخمة في لبنان كحدث اقتصادي هام ومؤثر في الساحة اللبنانية. وكان من المفترض وصول وفد صيني إلى لبنان في السابع من أغسطس أي بعد يومين من الإنفجار، يمثل عشر شركات صينية عملاقة بقيادة شركة "سانيو هيدرو" للمتابعة واتمام الاتفاق.

ويقوم المشروع على بناء سكة حديد تصل دمشق ببيروت وينتهي عند مرفأ بيروت. كما عرضت الصين ايضاً تدشين طريق أوتوستراد ضخم يمتد من الشمال إلى الجنوب ويصل كذلك دمشق ببيروت، بشكل موازٍ للسكة الحديد. كما طرحت الصين فكرة المساهمة في انشاء محطة توليد كهرباء بالطاقة الشمسية بقوة الف ميجاوات، يمكن أن تؤمن إنتاج شبه مجاني للكهرباء. كما لم تخف الصين اهتمامها بالمساهمة في استخراج الغاز الطبيعي البحري اللبناني. يساهم ذلك التطور المهم في انتشال الدولة اللبنانية من أزمتها الاقتصادية المعقده. فالانتعاش الاقتصادي يعد من أهم الطرق وأقصرها في حل المعضلة اللبنانية، خصوصا إذا اقترنت بالإصلاح السياسي القائم على أساس تحييد الطائفية في البلاد.

جاء انفجار مرفأ بيروت بعد ساعات قليلة من تهديد (بنيامين نتنياهو)، رئيس الوزراء الإسرائيلي، لحزب الله، فتوعد في اليوم السابق للإنفجار برد صارم على أي تهديد ضد إسرائيل، عقب احباط إسرائيل زرع عبوة ناسفة قرب الحدود مع مرتفعات الجولان المحتل. وجاءت تهديدات (بيني جانتس)، وزير الأمن الإسرائيلي، قبل عدة أيام من إنفجار المرفأ باعطاء التعليمات للجيش لضرب البنى التحتية في لبنان، ردا على أي مساس بجندي أو مواطن إسرائيلي. وأعاد (موشيه يعالون)، وزير جيش الاحتلال السابق، تكرار نفس التهديد معتبراً أن حكومة لبنان مسئولية عن الأوضاع في لبنان.

واعتبر (يوآف ليمور)، محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "إسرائيل اليوم" قبل حدوث الانفجار، أن التحدي الحقيقي لجيش الاحتلال يقع على الحدود الشمالية مع لبنان، بحجة أن يد إسرائيل مطلقة في الجبهة السورية على عكس الجبهة اللبنانية. وأكد (ليمور) أن الجيش الإسرائيلي يسعى لتدفيع حزب الله ولبنان ثمناً باهظاً، خصوصاً وأن الجيش يستعد لجولة قتالية بقوة كبيرة لعدة أيام، لتعزيز الردع وتأمين فترة هدوء طويلة على الجبهة الشمالية. وكانت إسرائيل قد وضعت حدودها الشمالية في حالة تأهب قصوى، تحسباً لعملية انتقامية ينفذها حزب الله، رداً على مقتل أحد عناصره في هجوم شنته قوات الاحتلال بالقرب من مطار دمشق في العشرين من الشهر الماضي.

يأتي ذلك التوتر في ظل تبني حزب الله معادلة جديدة لسياسة توازن الردع مع إسرائيل، والتي أعلن عنها منتصف العام الماضي. وكانت المعادلة السابقة تقوم على أساس رد الحزب على هجمات إسرائيل في حدود المشهد اللبناني فقط. الا أن المعادلة الجديدة تقوم على أساس الرد على أي هجوم ضد عناصره في سوريا أيضاً، وهو ما أعاد (حسن نصر الله) الأمين العام لحزب الله التأكيد عليه في ٢٥ مايو الماضي، رابطا الجبهتين اللبنانية والسورية في معادلة الردع مع إسرائيل، مؤكداً أن إسرائيل امتنعت عن استهداف عناصر الحزب في سوريا منذ سبتمبر الماضي، خوفاً من رد الحزب. إن ذلك التحول يفسر حالة الارتباك الشديدة التي أصابت إسرائيل على حدود جبهتها الشمالية، في أعقاب استهدافها لاحد عناصر الحزب في سوريا. يزداد أثر ذلك إذا ما وضع بعين الاعتبار رد الحزب على التصريحات الإسرائيلية بإمكانية استهداف البنية التحتية للبنان، بأن الحزب في هذه الحالة سيستهدف البنية التحتية لدولة الإحتلال، انطلاقا من استراتيجيتها القائمة على أساس العين بالعين.

وتدعي إسرائيل بأن حزب الله يعتمد على مرفأ بيروت في استيراد سلاحه، بعد نجاحها في تحييد ذلك النشاط عبر الحدود اللبنانية السورية، وفرض رقابة وحصار على ذلك المرفأ منذ مطلع العام الجاري، الأمر الذي يجعلها تعلم بتفاصيله وخباياه الدقيقة. وجاءت إشارة إسرائيل الصريحة باتهام الحزب باخفاء سلاحه في مرفأ بيروت خلال خطاب (بنيامين نتنياهو) في الأمم المتحدة في ٢٧ سبتمبر عام ٢٠١٨، ضمن الخرائط التي عرضها، الأمر الذي يجعل المرفأ هدفاً في قائمة الاستهداف الإسرائيلي. وقدمت إسرائيل تقرير للحكومة الألمانية قبل شهرين تقريبا، يفيد بامتلاك حزب الله لمادة نترات الامونيا، مؤكداً سعي الحزب للحصول على هذه المادة منذ عام ٢٠٠٩، وسعيه للهيمنة على وزارة الزراعة منذ ذلك الوقت من أجل ذلك الهدف. فإسرائيل تعلم تماما بوجود هذه المادة في المرفأ، كما تعلم خطورتها وتأثيرها المدمر، وسلوكها التدميري الاجرامي بحق المدنيين ليس جديدا، خصوصا إذا اقترن بالخسارة التي ستقع على حزب الله.

وتعتبر إسرائيل أن حزب الله في لبنان وحركة حماس في قطاع غزة التهديد المتبقي الذي يقف في وجه أهدافها في المنطقة. فسعت إسرائيل بعد الانفجار لابراز جميع الجوانب التي يمكن أن تضع حزب الله في دائرة المسئولية عن الهجوم لتقلب الرأي العام اللبناني والدولي ضده. فروجت إسرائيل بعد الانفجار مباشرة، أن مرفأ بيروت يقع ضمن نفوذ حزب الله، واتهمته بتخزين سلاحه ومادة نيترات الأمونيا فيه، وأثبتت علم (نصر الله) بخطورة تلك المادة، من خلال بث مقطع الفيديو الذي تم تداوله مباشرة بعد الانفجار، والذي يهدد فيه إسرائيل باحداث انفجار ضخم في مرفأ حيفا باستخدام نترات الامونيا الموجودة في الميناء. وتتهم إسرائيل الحزب بأنه يخفي أسلحته في المرافق المدنية ويستهتر بارواح المدنيين، الأمر الذي يعطي المبرر لإسرائيل، حسب أدعائها، لاستهدافها. وجاء ذلك الانفجار بالتزامن مع جلسة النطق بالحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتي كان مقرراً عقدها بعد يومين من وقوع الانفجار، حيث توجه المحكمة أصابع الاتهام إلى أربعة من أعضاء الحزب، ليضفى التوقيت بعداً إضافيا على تأجيج المشاعر ضد الحزب.

ووجهت عدد من وسائل الاعلام الإسرائيلية اتهام صريح لحزب الله بتخزين الأسلحة، وخصوصاً الرؤوس المتفجرة الخاصة بالصواريخ الدقيقة في مرفأ بيروت. وأكدت صحيفة "إسرائيل اليوم" بعد حدوث الانفجار، أن هذا المرفأ هو أحد مواقع تخزين الصواريخ الخاصة بحزب الله، مشيرة إلى أن الإنفجار قد يمهد الطريق إلى نزع سلاح حزب الله. وشددت جهات أمنية إسرائيلية على ضرورة تقديم المساعدات للبنان وفق شروط رقابية مشددة. كما اعتبر (يعالون) أنه لا بد من إشتراط المساعدات للبنان بالتخلص من سلاح الحزب، معتبرا أن هذا الانفجار فرصة للتخلص من الحزب بمساعدة المجتمع الدولي. فالمساعدات لتجاوز الازمة اللبنانية بعد انفجار المرفأ سيتم اقرانها بنزع سلاح حزب الله، لتكون المعادلة الإسرائيلية والهدف الأساسي من الانفجار قد اتضح، إما ضغط شعبي لنزع سلاح الحزب وإما صراع داخلي، سيدفع ثمنه لبنان وشعبه، وفي الحالتين سينشغل حزب الله بمشاكله الداخلية على حساب تركيزه في الجبهات الأخرى وستخرج إسرائيل منتصرة.

لا يمكن استبعاد فرضية أن انفجار مرفأ بيروت هو هجوم إسرائيلي مدبر ضد لبنان وشعبه، رغم عدم اتهام الحكومة اللبنانية أو حزب الله لإسرائيل. فإسرائيل هي المستفيد الأول من حدوثه، وطالما هددت قياداتها بشن مثل هذا الهجوم، ناهيك عن امتلاكها للقدرات الاستخبارية والمعلوماتية والعسكرية والتكنولوجية التي تؤهلها للقيام بمثل هذا الهجوم وبهذه الحرفية والدقة العالية. وتسجل إسرائيل رقماً قياسياً في الاعتداء على دول الجوار، بما فيها لبنان نفسه، ولا تضع حرمة لحدود أو سيادة أو حتى لقيم إنسانية.

كما أن هذا الانفجار قد ضرب العديد من الأهداف بحجر واحد. فقد دمر الإنفجار منفذاً حيوياً لحزب الله في الحصول على عتاده الذي تتربص به إسرائيل، كما دمر كمية ضخمة من مادة نترات الامونيا التي تتبعت إسرائيل باهتمام بالغ مساعي حزب الله لامتلاكها. كما أن الانفجار أحرج حزب الله داخلياً وفتح المجال لمطالبات خارجية بنزع سلاحه. ومن الممكن أن تتطور الاحداث في لبنان لمرحلة قد تؤجج صراعاً طائفياً داخلياً، يلهي حزب الله عن الجبهة الإسرائيلية لمدة طويلة.

تبدو صورة المشهد اللبناني اليوم مظلمة في ظل حالة من التخبط والانقسام واليأس المسيطر، يرزح ما بين موروث ثقافي واجتماعي وسياسي طائفي مسيطر، وما بين الاحتكام السياسي الداخلي إلى معادلة السياسة الإقليمية المدمرة، وما بين وضع إقتصادي متدهور. ويبقى الخاسر الأكبر، سواء من الإنفجار أو من الإنزلاق نحو صدامات داخلية، لبنان وشعبه، والذي بيده اليوم أن يقف متحدياً كل العقبات، متكاتفا ومضمدا لجراحة، لينهض من جديد. فبارادته الشعبية الموحدة تحت علم لبنان فقط من الممكن أن يحقق العدالة والمساواة، ويقضي على كل أشكال الفساد ورموزه والارث الطائفي المقيت عبر انتخابات برلمانية مبكرة، تجلب معها تعديلات دستورية ضرورية، ليصبح لبنان صلبا عصياً في مواجهة المؤامرات، وجاذباً للاستثمارات، والتي يعد الاستقرار السياسي أهم ضماناتها، والتي ستعيد بناء لبنان.