حكومة دياب تتهاوى أمام عصف الانفجار
تاريخ النشر : 2020-08-11 10:07

قضي الأمر، وتخلى حسان دياب عن كرسي رئاسة الحكومة، وهي استقالة لم تتأخر كثيراً، فقد سقطت كل مبررات بقائها بعد عصف نيترات الأمونيوم، وهي نتيجة طبيعية لكارثة بحجم انفجار المرفأ.
فبينما كانت الدول المانحة تعلن تباعاً من باريس حجم مساعداتها الإغاثية للشعب اللبناني، كان عقد حكومة حسان دياب ينفرط توالياً في بيروت على وقع استقالات وزارية أشبه بالانشقاقات التي تحصل في الأنظمة البائدة، فقد كان عصف الانفجار الذي ضرب بيروت، وما تبعه من "سبت الحساب"، واقتحام الوزارات، والدعوات الشعبية إلى تعليق المشانق للمسؤولين، شديد الوطأة على قاطني السراي الحكومي، وعلى منظومة 8 آذار. وباتت حكومة دياب في عين عاصفة اقتلاعها، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد أن تهاوت أحجار الدومنيو داخل الفريق الوزاري لدياب، باستقالة وزيرة الإعلام منال عبد الصمد، وصديق دياب الوزير ديمانوس قطار، ووزير المالية ووزيرة العدل، وتهديد عدد كبير من الوزراء باستقالات جماعية، وتلاقي ذلك مع استقالات حدثت في مجلس النواب.
وعندما حاول حسان دياب وفي الوقت الضائع، قلب الطاولة، واستيعاب حركة الشارع، وقال في بيان له: لا يمكن الخروج من الأزمات الا بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وانه مستعد لتحمل المسؤولية لشهرين ويدعو للاتفاق على المرحلة المقبلة.
فإن مبادرته أتت منفردة، ولم يتوافق في شأنها مع رئيسَي الجمهورية ومجلس النواب وحزب الله، والذين رأوا في هذه الخطوة أنها موجهة ضدهم، كونهم هم الذين يمتلكون الأغلبية النيابية، والتي رد عليها نبيه بري، بدعوة مجلس النواب إلى جلسة مسألة للحكومة في شأن انفجار المرفأ. وبالتالي لم تنجح مناورة دياب، الذي وجد نفسه، أنه لا مفر أمامه من الاستقالة، ليس فقط داخلياً، بل خارجياً.
فالانفجار أيضاً، قلب الموازين الغربية في التعامل مع لبنان. كان هدف الحصار خنق لبنان واقتصاده، لا قتله. لكن الانفجار أودى بالبلد إلى أبعد بكثير من الخطط الغربية. هذا اغتيال بالجغرافيا استدعى تغييراً جوهرياً يضمن عدم انهيار لبنان. ووصول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى لبنان، على وجه السرعة، لم يكن للتعزية حصراً. زيارته أعلنت عودة الفراغ إلى السلطة التنفيذية، تمهيداً لإعادة ملئها ببركة الغرب.
وما قاله ماكرون أمام الرؤساء الثلاثة في زيارته الأخيرة للبنان، عن الحاجة إلى تغيير "السيستم" لم يكن سوى إشارة إلى حسان دياب بأن عليه أن يتهيأ للرحيل، لأن هناك عملاً جدياً يسعى إليه "بيّ الكل" الفرنسي من أجل تحضير المسرح السياسي لنظام جديد وحكومة جديدة، يتواكب مع اتساع الحركة التدويلية المتعلقة بأوضاع لبنان.
لكن رحيل دياب من دون الاتفاق على بديل، يعتبر المثال الصارخ على هشاشة الواقع السياسي وترهل المؤسسات، كما يفتح المجال حكما أمام مرحلة مفتوحة على كافة الاحتمالات على غرار حقبة ٢٠٠٥ و ما تلاها من تغيرات عميقة في المشهد اللبناني.
ماكرون، الذي عكس الإحباط واليأس الدولي من الفساد الواسع القائم في لبنان، اعلن بوضوح من بيروت انه لن يعطي شيكاً على بياض، وأن المساعدات الطارئة لن تقع بأيدي الفاسدين، بل مباشرة الى الناس. لقد تحدث ماكرون باسم أوروبا في بيروت، وخطف الاضواء حين نجح في جمع الفرقاء اللبنانيين في قصر الصنوبر، وحين جال في شارع الجميزة، وتجمهرت جموع الناس من حوله، كأنه منقذ، وهي جولة لم يتجرأ اي مسؤول لبناني على القيام بها. وحتى ألمانيا، بدت معجبة بالحفاوة الشعبية التي لقيها ماكرون، واعتبرت انّ ماكرون نجح في الوقوف الى جانب السكان ضد النخب السياسية المكروهة. صحيح انّ لفرنسا طموحاً جيوسياسياً في الشرق الاوسط، وهو ما يميّزها عن بقية دول الاتحاد الاوروبي، الّا أنّها ايضاً صاحبة تأثير كبير في اوروبا، وماكرون تحدث باسمها في بيروت.
ويبدو أن ماكرون، تشاور مع الرئيس الأميركي بعد مغادرته بيروت، وهو ما انتج مرونة اميركية ومشاركة في المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس، ونجح بجمع 300 مليون دولار مساعدات إغاثية. فالصورة المروعة التي لمسها ماكرون بنفسه حدت به الى إقناع ترامب بأنّ انهيار لبنان اصبح حقيقة قائمة، وأنّ لهذا الانهيار عواقب وخيمة في منطقة تنهار دولها الواحدة تلو الأخرى، وبالتالي يجب منع لبنان من الانزلاق كي لا يصبح دولة فاشلة. وقال قصر الإليزيه إن "ماكرون أبلغ ترامب أن سياسات الضغط الأميركية يمكن أن يستغلها حزب الله.
ولا تكمن "أهمية" مؤتمر باريس لـ"مساعدة لبنان" في وجود "التفاف إنساني" حول البلد بعد انفجار 4 آب، بل في الرسالتين السياسيتين اللتين خرج بهما. أولاً، نجحت باريس في إقناع الولايات المتحدة بأن سقوط الهيكل اللبناني يُعزّز النفوذ الإيراني داخله. وثانياً، بأن منع السقوط الكامل لا يعني تعويم السلطة القائمة بشكلها الحالي. المؤتمر لم يكن هدفه الأول جمع التبرعات، بدليل الرقم النهائي: أقل من 300 مليون دولار هي حتّى الساعة مُجرّد "تعهدات".
وتتكشف الأمور عن عرض فرنسي وافق عليه "حزب الله"  قوامه "الموافقة على ترسيم الحدود البحرية مقابل تخفيف الضغوط الاقتصادية.
ولهذا يتوجه ديفيد هيل المسؤول الأميركي إلى بيروت للبحث في هذا الملف، وهو يعني أن قطار التدويل يمضي، والتدويل اليوم تدويلان. تدويل للتحقيق فيما حدث، وتدويل ينطلق من إعادة إعمار المرفأ، قلب النشاط الاقتصادي والتجاري له، بشروط مختلفة كليا عن تلك التي كانت قائمة فيه قبل الانفجار.
وفي الواقع لا يعني تغيير الحكومة شيئاً، بدون تغيير النظام السياسي، فالطبقة السياسية الحالية التي جاء معظم قواها من مواقع حاقدة على الدولة لم تتغير كثيراً في العمق. فكرة الحقد على الدولة لدى من صار يدير الدولة يجعل استباحة الشأن العام هدفاً واعياً. صادرت هذه القوى الدولة وأدارتها بشراهة مذهلة.
والمشكلة أيضا أن البديل لحسان دياب، لم ينضج بعد. ربما تحرر سعد الحريري من الضغط الأميركي الذي يمنعه من تولي رئاسة حكومة تضم حزب الله، لكنه لم يحصل على الضوء الأخضر السعودي بعد. والسعودية ليست متحمسة لعودة الحريري، وليست مستعدة بعد للتسليم لحزب الله بالبقاء بالحكومة. وقد أكد وزير خارجيتها فيصل بن فرحان في مؤتمر دعم لبنان، أن هيمنة حزب الله على لبنان مثيرة لقلق الجميع.