من قعر الأسى في الأغوار تنطِقُ لوحات "خديجة"
تاريخ النشر : 2020-07-30 08:15

الأغوار/ شبكة نوى- فلسطينيات:

منذ عامٍ ونصف، لم تطأ ريشة خديجة بشارات أرض تلك المساحة البيضاء التي لطالما أغرتها ومنحتها فرصةً للتعبير عن مكنونات نفسها وروحها، وتجسيد واقعٍ تعيشه بأدق تفاصيله، بعين فنانة تقتنص الصور وتخزّنها في ذاكرتها لتُولد من جديد على شكل لوحة.

رغم شغفها بالفن الذي وصفته بأنه "كل حياتها"، إلا أن الظروف الحياتية والاقتصادية الصعبة منعتها من الرسم طوال الأشهر الماضية.

تقول خديجة: "الرسم بالنسبة لي هو حياتي ومتنفسي، لكن الفنان يحتاج إلى جو مناسب يمنحه الراحة النفسية والهدوء، وهذا في الحقيقة غير متوفر لدي".

في بيت بسيط بقرية حِمصة التحتا في الأغوار الفلسطينية، التي تهددها أنياب "خطة الضم" الإسرائيلية، تعيش الفنانة التشكيلية بشارات (32 عامًا) مع زوجها وبناتها الثلاث.

بيتٌ يُطلُ على جمال الطبيعة وسحرها ويُلهم الروح كي تُبدع، لكنه مهددٌ بالهدم في أية لحظة من قبل قوات الاحتلال.

في شباط/ فبراير الماضي، تلقّتْ خديجة وعائلتها إخطارين بهدم منزلها من قبل سلطات الاحتلال، أولهما من ما تسمى بـ"سلطة الآثار الإسرائيلية"، بحجة أن زراعة الزيتون تدمر المكان "خاصة أن المنطقة أثرية"، والآخر من الإدارة المدنية الإسرائيلية، احتجاجًا على وجود "بَرَكس" (حظيرة صغيرة) لتربية المواشي.

 خلال السنوات الماضية عايشت خديجة وعائلتها خسارة المنزل أكثر من مرة، ففي بداية زواجها كانت تعيش في غرفتين من الطين مسقوفتين بالخشب، وبسبب عاصفةٍ قويةٍ تَدَمّرَ السقف، ما اضطر العائلة إلى بناء غرفتين من الطوب، لتعود سلطات الاحتلال لهدمهما عام 2015م.

لاحقا قدم الاتحاد الأوروبي "كرفانًا" للعائلة، ومنَحَها فرصةً للتوسع، لكن في منتصف عام 2017م، تسلّمت إخطارًا إسرائيليًا جديدًا بهدمه وتفكيكه، وهذا ما حدث. لتعاود العائلة تركيبه بعد ثمانية أشهر، إلا أن قوات الاحتلال باغتتهم وقامت بمصادرته.

إلى جانب تهديدات الاحتلال، تقول خديجة: "التكاليف المادية للرسم عالية جدًا، وتشكل عائقًا إضافيًا يحول دون ممارسة شغفي الفني"، مضيفةً: "كنت أعمل مع زوجي في المزارع والأغنام، وأحاول توفير أي مبالغ مهما كانت بسيطة، لأشتري لوحات أو ألوان، لكن منذ سنة ونصف لم أمسك الريشة، إذ لا يوجد مواد متوفرة لدي كي أرسم".

معاناة على معاناة

التحقت خديجة بجامعة النجاح لتحقق حلمها بدراسة الفنون، ورغم معاناتها اليومية في التنقل بين مكان إقامتها في الأغوار ومدينة نابلس، خصوصًا عبر "حاجز الحمرا العسكري"، إذ كانت تتعرض للتفتيش والتأخير، ناهيك عن مسؤوليتها كأم وزوجة،  إلا أنها لاحقت حلمها حتى نالت شهادتها الجامعية.

اختارت خديجة مشروع تخرجها عام 2015م، بعنوان "واقع وذكريات"، ورصدت بريشتها وألوانها واقع الفلسطينيين في الأغوار في ظل الاحتلال وإجراءاته واعتداءاته المستمرة، من هدمٍ ومصادرةٍ وإخطارات، وعبر لوحاتها عرضت ذكرياتها عن حياتهم قبل الاحتلال، وأشكال التغيير التي وقعت على أهالي الأغوار.

تحظى خديجة بدعم زوجها الذي يشجعها على إكمال مشروعها وشغفها الفني، لكن قلة الإمكانيات المتوفرة هو ما يمنعها عن تحقيق ذلك.

تقول: "أثناء دراستي وبسبب ضيق الحال أجلت الدراسة عدة مرات وفكرت بتركها، لكن زوجي كان يشجعني ويحثني على إكمالها، وهذا دعمني ومنحني القوة، كما أنه كان يحاول بكل جهده توفير كل ما يلزم من أجل تطوير مشروعي الفني".

رغم كل المعاناة التي عاشتها خديجة كبقية المواطنين في الأغوار، إلا أنها لم تغفل جمال الطبيعة وسحرها الأخاذ في جبال وسهول المنطقة، وكذلك حياة المزارعين اليومية البسيطة وممارساتهم وأعمالهم، فوثّقتها في عشرات اللوحات التشكيلية.

قلة اهتمام

لم تستطع خديجة حتى الآن تنظيم معرضها الفني الذي تحلم به في الأغوار، في ظل عدم الاهتمام الرسمي من قبل المؤسسات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية كما تقول.

في عام 2015م تبنت منظمة "بيتسيلم" (منظمة حقوقية إسرائيلية) مجموعة من لوحات خديجة الفنية حول الطبيعة في الأغوار، ونظمت لها معرضًا فنيًا في القدس المحتلة لم تستطع حتى حضوره، ونجحت في بيع عدد من اللوحات.

كذلك فعلت زوجة السفير الدنماركي في مدينة القدس، التي ساندتها في إقامة معرضٍ مشابه في المدينة، عام 2018م، وباعت فيه معظم لوحاتها.

تعلق خديجة: "أمنيتي أن أقيم معرضًا خاصًا بي هنا، لكن لا يوجد مجال لذلك، فأين سأقيمه؟ هنا لا يوجد مكان مناسب، وفي البيت لا أعتقد أن أحدًا سيزوره".

تقوم خديجة بتغليف لوحاتها التي رسمتها منذ سنوات بأكياسٍ بلاستيكية لحفظها من التلف، وفي الشتاء تضطر إلى تعليقهن في إحدى زوايا الغرفة بعد تغليفهن كي لا يصل إليهن المطر الذي يتسرب عادةً من سقف الغرفة.

ومنذ تخرجها تسعى خديجة للحصول على وظيفةٍ في سلك التربية والتعليم، وتتقدم للامتحان والمقابلة سنويًا دون جدوى، تقول: "قبل عامين تحدثت الحكومة عن دعم المناطق المهمشة، وعلى رأس ذلك أولوية التوظيف"، "بس عالفاضي، مجرد حكي، هم ما طلبوني لا كمعلمة ثابتة، ولا حتى بديلة" تستدرك.

رغم ذلك، لم يخفت شغف خديجة بالريشة والألوان، ولا تزال اللوحة البيضاء نافذة روحها، بانتظار أن تحظى بفرصةٍ تساعدها على الانطلاق في تخليد ونقل رسالة المنسيين في قاع العالم.