في جيب ذاكرة "الحرب".. صورةٌ تنزفُ لأم "شيماء"
تاريخ النشر : 2020-07-16 09:11

بيت حانون:

في الحادي عشر من تموز/ يوليو لعام 2014م، كان قلمُ "نوى" يتجول في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، يربّت على قلوب ضحايا العدوان الإسرائيلي هناك، بقصصٍ تثبت إنسانية القضية، وجذور الوحشية الإسرائيلية في قلب الحقائق ووأد الأمل.

في إحدى الغرف، كانت الطفلة شيماء المصري، تستلقي على أحد الأسرة، كانت شبه فاقدةٍ للوعي، تصرخُ كلما فتحت عيونها "وين ماما؟" ثم تعود للإغماء من جديد.

كانت شيماء تبلغ من العمر أربعة أعوام، يوم استهدفهم في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، صاروخٌ أطلقته طائرة حربية إسرائيلية، أدى إلى استشهاد أمها سحر، وأختها أسيل (17 عامًا)، وشقيقها محمد (15 عامًا) وابن خالتها أمجد حمدان (25 عامًا). في حين نجت هي! لكن بإصابةٍ جدّ خطيرة.

شيماء كانت من الوجوه التي لا تُنسى، قلمُ "نوى" قرر أن يزورها اليوم في بيتها الجديد الذي خضع لإعادة الإعمار بعد وقتٍ من تاريخ الحرب، ليكتشف أنها كبُرت.. كبُرت عُمرًا آخر غير ذاك المدون في شهادة الميلاد.

تدرس شيماء في الصف الخامس الابتدائي اليوم، بعض آثار الإصابة ما زالت ظاهرة على جسدها ولكن الجرح في القلب أعمق. بحضور والدها إبراهيم المصري الذي يعمل أخصائيًا اجتماعيًا؛ تعيد الطفلة الحديث عما جرى في ذلك اليوم، كأنما هو فيلم تراه للتو واللحظة، ما زالت تذكر التفاصيل بكل آلامها وقسوتها، يسترجعها عقلها كلما شعرت بشوقٍ لأمها التي لم تشبع من حضنها أبدًا.

بصوتٍ يختنق، قالت: "باتذكر كل اللي صار منيح، يومها كنا نتعشّا في الدار، أختي أسيل المخطوبة صار عندها وجع في بطنها، وإمي أخدتها عالمستشفى وقالت لمحمد أخويا تعال معي، وأنا عيطت وقلت لها بدي أروح معك عشان ما أبعد عنها".

أنهت الأم علاج ابنتها، واتجهت إلى بيت شقيقتها القريب من العيادة، تطلُب مساعدة ابن شقيقتها أمجد في توصيلها، وبشكلٍ مفاجئ استهدفتهم طائرة حربية إسرائيلية فاستشهد محمد فورًا، هرعت أمها صوب محمد بينما حملت أسيل شيماء للفرار بها، قبل أن يباغت أمها الصاروخ الثاني فتستشهد برفقة أمجد، أما الصاروخ الثالث فأدى إلى إصابة الشقيقتين قبل أن يُعلَن عن استشهاد أسيل لاحقًا.

تشيح شيماء بوجهها، وتحاول أن تتغلب على تلعثمها وهي تصف المشهد: "قصفوا محمد وصرخت إمي وجريت عليه، قصفوا عليها، بعدين أسيل حملتني وحاولت تجري، قصفوا علينا وأخدوني بعدها على فزبة (دراجة نارية) على المستشفى".

وصلت شيماء إلى المستشفى بحالة خطيرة جدًا، بينما كانت حالة أسيل متوسطة وفقًا لوالدها، الذي أكد أن ابنته كانت مصابة بنزيف داخلي انتبه إليه الطبيب في وقتٍ متأخر، وأدخلها غرفة العمليات. ظلت لأربع ساعات هناك، ثم أُعلن عن استشهادها.

يضيف: "خرج الطبيب من غرفة العمليات يحمل بين يديه الكلى متفجرة تمامًا، أما شيماء فأصيبت بشظايا دخلت من بطنها وخرجت من ظهرها أدت إلى تهتك أعضاءٍ في جسدها من الداخل، لكم أن تتخيلوا شظايا بحجم كبير تخترق جسد طفلة عمرها أربع سنوات"، معقبًا بنبرة أسى: "طفلتي نجت بأعجوبة".

لكن شيماء التي ما زالت تتجرع سم الذاكرة، رأت والدتها حين حضنت محمد وتم قصفها، ربما التشبث بأملٍ ذائب دفعها حينها للسؤال المستمر "وين ماما؟"، يقول والدها: "هي شاهدت القصف الذي طال محمد وأمها، ولكن من المحتمل أنها لم تكن متأكدة من استشهادها خاصة أنها كانت طفلة صغيرة".

كانت شيماء متعلقة بشكل كبير بمحمد، الذي لطالما خصّها بحبه ورعايته وشراء الحلوى والبسكويت لها، لا عجب، فقد كانت "آخر العنقود" بين أربعة ذكور وشقيقتين، وحتى الآن هي ما زالت مدللة والدها الذي أنجب لاحقًا ثلاثة أبناء ذكور من زوجته الجديدة، سمّى أحدهم محمد تيمنًا بابنه الشهيد.

حين كانت شيماء في المستشفى، تعرض منزلهم للقصف والتدمير الكلّي، لم يجد الأب أي وقت للحسرة على "شقاء العمر" الذي بات أثرًا بعد عين، ففاجعة فقدانه زوجته وابنه وابنته التي كان يفصله عن زفافها فترة انتهاء الحرب فقط، جعلت قلبه غير قادر على استيعاب المزيد من الألم، فبدلًا من أن يزفها بالثوب الأبيض، حملها تنزف دمًا بالكفن.

"قضيتُ في مستشفى الشفاء بمدينة غزة 17 يومًا، كانت الأقسى على قلبي، أدعو الله في كل ثانية ألا يفجعني بشيماء"، غصة قلب الأب لفقدان ثلاثة، لم تترك له مجالًا للتفكير في أي خطوة بعد تدمير البيت، هاجر مع المهاجرين إلى المدارس، فظل هناك قرابة أسبوعين، ثم استأجر منزلًا في منطقة قريبة من مستشفى الشفاء، ليظل قريبًا من شيماء التي أجرت لاحقًا عدة عمليات جراحية.

الطفلة لم تُمنح الوقت للبكاء على ألعابها التي اختلطت بالأنقاض، ولم تودّع أمها وإخوتها، بل لم تحظَ بأي قطعة ثيابٍ كذكرى منهم، كل شيءٍ طواه الركام، ورغم امتلاكها لعدد غير قليل من الألعاب حاليًا لكنها ما زالت تحلم بتلك العروسة الصغيرة التي كانت تملكها قبل هدم البيت، ولن تراها بعد اليوم أبدًا.

يحلم الصغار عادةً أثناء النوم أنهم في نزهة، أو أنهم تلقوا لعبة جديدة كهدية، لكن شيماء التي تعاني من "شرود الذهن" المستمر، وقلة التركيز في الدراسة، تحلم بصوت أمها وهي تصرخ، وتحلم بشقيقتها أسيل وهي تحملها وتجري بها، تحلم بالدماء التي غطت جسد محمد وبأشلاء أمجد.

تقضي شيماء جلّ وقتها حاليًا في اللعب، وتقليد الممثلات الهنديات بوضع ملابس الكبار بشكل دائري في محيط خصرها لتقليد لبس الساري الهندي، هذه الألعاب هي متعتها الوحيدة التي بقيت لها في هذه الحياة. لكنها على صغر سنّها تشكو من وجع الذكرى، تقول: "بتضايق لما بسرح بفكرش بإشي، بس بصير أتذكر أمي".

تود شيماء لو أنها كبُرت بأمان بعيدًا عن كل هذا الخوف، بعيدًا عن صوت الطيران الذي لا يغادر ذاكرتها ولا سماء غزة، تريد دراسة تخصص اللغة العربية وتدريسه في المدارس، وهي تتمنى لو أنها كبرت دون خوف من قصف مماثل، يمكن أن يموت فيه أطفال آخرون.

أما والدها الذي يتفهّم تمامًا الوضع الصحي لابنته، يقول :"تسرح كثيرًا، ولا تركّز في دراستها، منذ دخلت الصف الأول لاحظنا تدني علاماتها، وضعتُ مدرستها في صورة الوضع كي ينتبهوا لكيفية التعامل معها، لكن كل الجهود تبدو ضعيفةً أمام عِظَمِ ما تمر به".

ظلّت الطفلة تتابع مع الأخصائيين النفسيين، بمساعدة والدها كونه أخصائي اجتماعي، وهذا سهّل عليه فهم طبيعة حالة ابنته، وكيف يتعامل معها، "هي ملكة البيت ومدللته، الابنة الوحيدة بين ستة ذكور، كل ما تطلبه مُجاب، وهي الأقرب لقلبي".

يتوجه إليها مازحًا بسؤال: "لما تكبري شو بدك تصيري تخطبي زي أسيل ولا تدرسي؟"، ثم يجيب: "أريد لشيماء أن تكمل حياتها بالشكل الذي تحبّه وتختاره، هي ابنتي الوحيدة والأقرب لقلبي، أجريت لها عدة عمليات تجميل لعلاج آثار الإصابة، وبقي عملية أخرى سأجريها لها قريبًا لدى أحد الأطباء في غزة".

تابع الأب مع مؤسسات حقوق الإنسان منذ اليوم الأول لاستشهاد عائلته، لكنه يدرك أن الاحتلال لا يقيم وزنًا لشيء في هذا الكون، وهو يشك في أن حق عائلته سيعود يومًا ما، ولكنه يؤمن بضرورة توثيق جرائم الاحتلال من أجل استكمال الملفات القانونية، أو على الأقل التنغيص على مرتكبي الجرائم بحق المدنيين الفلسطينيين العزل.