"دلال" تحقق حُلم عَقْدين بـ "جيد جدًا مرتفع"
تاريخ النشر : 2020-07-12 22:56

"غزة:

كانت دقات القلقب تخف بشدةٍ مع كل دقيقةٍ تمر، إنه فجر السبت، السادس من يونيو/ حزيران، حيث موعد إعلان نتائج الثانوية العامة.

تلك اللحظة "على ما تحمله من رهبةٍ وخوف"، كانت تزور دلال ساق الله في أحلامها، منذ تزوجت قبل 22 عامًا، وانقطعت عن الدراسة. عقرب الساعة يقترب من الثامنة، القلب وصل الحنجرة، فدلال لم تكن تنتظر نتيجتها وحسب، ابنها ضياء هذا العام معها "طالب توجيهي" أيضًا.

عيون أهل البيت كلهم، لم تفارق شاشات هواتفهم المحمولة، أما هي فكانت تراقب ارتجافة قلب ابنها، وتحاول أن تتظاهر بالقوة، لولا فرك أصابعها ببعضها البعض بشكلٍ متواصل.

الهواتف طنّت مرةً واحدة، ثم تعالت الزغاريد، دلال (87%)، وضياء (60.7%)، نجح الاثنان لكن دلال بعمرها اليوم تفوقت على المستحيل، السيدة التي قفزت عن عتبة الأربعين من العمر، حصلت على "جيد جدًا مرتفع".

بابتسامةٍ واسعة، ومن داخل منزلها في حي الزيتون وسط مدينة غزة، تحكي دلال عن تجربتها بعد انقطاعٍ طويل عن الدراسة بسبب الزواج والإنجاب، فتقول: "منذ تزوجت، لم تفارقني فكرة العودة لمقاعد الدراسة مجددًا، لكنني انشغلت بأبنائي وتربيتهم، ونسيت أحلامي.. كانوا هم كل الأولوية".

لدى دلال ثلاثة أبناء: محمد 20 عامًا، ضياء 18 عامًا، ولينا 15 عامًا، لم يحالفها الحظ في الثانوية العامة عام 1998م عندما تزوجت، ففكرّت وقتها بأنها يمكن أن تعوض فقدها ذاك بأبنائها، عندما لم تألُ جهدًا في تدريسهم بنفسها، ومتابعة كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في مناهجهم الدراسية، حتى إذا ما نجح أكبر أبنائها "محمد" في الثانوية العامة قبل عامين، عاد التفكير يراودها "لماذا لا أكمل؟".

رغم شغفها الحارق، آثرت السيدة تأجيل الفكرة عامًا آخر، حتى يتسنى لها الدراسة في ذات العام مع ابنها ضياء.

كل المناهج تغيرت عن تلك التي كانت تدرسها "دلال" قبل 22 عامًا، لقد عايشت المنهاج المصري وكان عليها اليوم اعتماد المنهاج الجديد

"كانت العلاقة بيننا علاقة تعاون متبادل" تقول الأم موجهةً حديثها لضياء بعد أن رسمت على وجهها ابتسامة، ليتدخل ضياء ويقطع الحديث بقوله: "كانت تكتب الملخَصات وأنا أدرسها بعدها".

تتسع نظرة الفخر في عينيها وهي تتابع السرد: "رجعتُ إلى الدراسة منزليًا، بلا مدرِّسين سوى لمادتَي الرياضيات واللغة الإنجليزية، حيث اعتمدت على أصدقاء لنا، كنت أتواصل مع أستاذ الرياضيات عبر "الواتساب" فهو الآن يعمل في الكويت".

كل المناهج تغيرت عن تلك التي كانت تدرسها "دلال" قبل 22 عامًا، لقد عايشت المنهاج المصري وكان عليها اليوم اعتماد المنهاج الجديد بكل ما يحمله من صعوبةٍ يشكو منها الطلبة المواكبين حتى، إلا أنها عند هذه النقطة فجرت مفاجأة حين قالت: "المناهج ليست صعبة بالشكل الذي يروج له الطلبة، هي كبيرة جدًا، ودسمة جدًا، وتحتاج إلى الكثير الكثير من الوقت والجهد".

كانت دلال مصرة على توفير كل متلبات النجاح لنفسها، رغمًا عن أنف كل الظروف، لقد أخذت على نفسها عهدًا أن تثبت ذاتها بهذه الخطوة، وهذا ما حصل، عندما حازت المعدل الذي سعت إليه "وتوقعته" تمامًا.

الأمهات العائدات إلى الدراسة بعد سنوات من الانقطاع، يبذلن جهدًا مضاعفًا، وهذا ما يجعلهن يسعين إلى "التميز" لا النجاح وحسب –تزيد دلال- التي أشارت إلى أن لكل تجربةٍ خاضتها أم منقطعة، ظروف خاصة ومختلفة عن تجارب الآخرين، "كما أن دعم العائلة يشكل فرقًا حقيقيًا (..) على أية حال، الإرادة هي أهم عامل للنجاح والتفوق، هذا ما استخلصته من تجربتي".

ولا تعدُّ ساق الله نفسها، بعد كل تلك السنوات منقطعة عن العلم، "بل عن سلك التعليم فقط"، حيث كانت تساعد أبنائها في الدراسة، ومرت على كل المناهج الدراسية بكافة تطوراتها "لكن التحدّي الأكبر كان في فترة أزمة كورونا، وما رافقها من توتر وارتباك، إغلاق مدارس، وتشعب دور الأم داخل المنزل أيضًا".

تعلق: "التوتر نجم عن عدم وضوح قرار وزارة التربية والتعليم منذ البداية، لم نكن نعلم ما إذا كان العام الدراسي سيُلغى، سيؤجل؟ أم ماذا؟ وماذا عن الاختبارات؟ هل ستكون إلكترونية أم ورقية كما جرت العادة؟"، ملفتةً إلى الضغط النفسي الذي عاشته في فترة الأزمة عندما اضطرت إلى متابعة ابنها محمد الذي يدرس في الجامعة، ويقدم امتحاناته إلكترونيًا، وما تسبب به ضعف الإنترنت آنذاك من تأخره في تسليم الامتحان لولا أن الله أنقذه في آخر دقيقةٍ ونصف".

ضياء الآخر، زميل الدراسة وابن القلب، كان سبب ارتباكٍ آخر، حين كان يجيبها كلما طلبت منه أن يذاكر دروسه: "بس نعرف شو راح يصير معنا أول" يقصد العام الدراسي، "وهذا الواقع المحبِط تسبب في تراجعه عن الدراسة لشهرين كانا مهمين، لهذا كانت نتيجته مختلفة عن نتيجتي" تردف.

وهنا يتدخّل ضياء ضاحكًا: "كنا ندرس سويًا، ونتعاون، ولكن بالنسبة لي أنا سعيد جدًا من أجل أمي، وفخور أنها حققت نتيجةً أعلى"، لكنه يضيف مازحًا: "خطفت مني أضواء النجاح سامحها الله".

تعتقد دلال أن التزويج المبكّر للفتيات مشكلة لها تبعاتها الصحية، ومع أنها تزوجت بعمر 18 عامًا، إلا أنها تقر بأن هذا السن "صغير" على تحمل المسؤولية، تعلق: "لا بد من ترك المساحة الكافية لجسم الفتاة كي ينمو بشكل سليم، لتكون قادرة على تبعات الحياة الزوجية".

بالنسبة لها كانت تود الحصول على شهادة الثانوية العامة كي لا تكون بلا شهادة، لكن ما دامت حصلت على معدل مرتفع يؤهلها إلى دخول أي تخصص ترغب فيه، فهي ستذهب إلى تخصص تربوي يفيدها في حياتها وعلاقاتها مع الناس.

تطمح دلال بالعودة إلى المدارس كمعلمة، وتتمنى لو استطاعت توظيف موهبتها في التطريز، لتعليم الفتيات هذا الفن الراقي المهم، "فمهارة التطريز فضلًا عن كونها تراثنا الذي نعتز به، هي تزيد من مساحة التفكير الإبداعي لدى الفتيات" تتابع.

في بيت دلال المليء بأجواء الفرح واستقبال المهنئين، يتولى ضياء مهمة استقبال ضيوف والدته وتقديم الحلوى لهم، أثنت دلال على تعاون كل أفراد البيت معها، ورغم وضوح هذه السعادة على محياهم إلا أن ضياء يبدو الأكثر سعادة، فهو رفيق درب دراستها لعام كامل.