المنازل الأثرية.. دمغةُ التاريخ في وجه زيف "إسرائيل"
تاريخ النشر : 2020-07-11 06:49

بحذرٍ شديد يواصل الشاب محمد نبهان عمله في ترميم أحد المنازل الأثرية في مدينة غزة القديمة. العملية تحتاج إلى دقةٍ وحذر شديدين لحساسية الحجارة المستخدمة في عملية الترميم، ناهيك عن تهالك الجدران والأسقف، والخوف من تعرض أي جزءٍ من أجزاء المبنى للانهيار.

بعد أن توقف عن العمل بضع دقائق، قال لـ "نوى": "الأمر يحتاج إلى عناية فائقة، نحن نبدأ الترميم من الجزء وصولًا إلى الكل، فأي خطأ قد يؤدي إلى انهيار المبنى بأكمله، وربما إحداث تشققات أو تلف في الحجارة التي لا يمكننا إيجاد مثيلٍ لها الآن".

في مبنىً مجاور يعود عمره لمئات السنين، انشغل مجموعة من الشبان في تعقيم الباحة التي كانت تحمل قديما اسم "الإيوان"، كخطوةٍ أولى تسبق عملية الترميم، ذلك بهدف القضاء على القوارض والحشرات في المبنى.

يقول أدهم طوطح: "نرش المبنى ونعقمه بخوفٍ شديد، الأمر لا يخلو من المجازفة، فقد تباغتنا لدغة عقرب أو ثعبان".

قبل البدء فعليًا في عملية الترميم، يلجأ طوطح للبحث والقراءة حول  الموضوع، فالتعامل مع المنازل الأثرية يتجاوز عملية التشييد العادية المتعارف عليها بمراحل، "نحن نعيد تشييد التاريخ" كما يعبر.

وتمتد عملية الترميم للمنزل الأثري الواحد فترةً طويلة، قد تصل لعدة أشهر، وربما تمتد لسنوات، نظرًا لصعوبة التعامل مع الحجارة القديمة على اختلاف أنواعها، ناهيك عن تكلفتها العالية، وندرة وجود البدائل حينًا آخر.

يؤكد الخبير في ترميم المباني الأثرية د.سليمان هاشم، أن ترميم بعض المنازل القديمة في غزة يتم بمبادرةٍ فردية من المُلاك أنفسهم، ذلك بهدف حماية التاريخ القديم من الاندثار، وحفظ الحق الفلسطيني على أرض فلسطين، التي يحاول الإسرائيليون سرقتها باختلاق جذورٍ مزيفة.

يشير بيده إلى المبنى الذي يواصل العمال ترميمه، ويكمل: "هذا المبنى على  سبيل المثال، نطلق عليه اسم (منزل العصور)، هو منزل يعود للعصر العثماني، أي تم تشييده قبل أربعمئة عام، لكنه بُني فوق منزلٍ مملوكي، وتحته قوسٌ يعود للعصر البيزنطي".

يدلل هذا كما يرى  خبير الآثار، على مكانة غزة التاريخية والجغرافية، إذ كانت ملتقى لعدة قارات، ولها أهمية اقتصادية كبرى، تبدو جليةً في طبيعة المنازل التي يتم ترميمها.

يزيد: "هي مبانٍ مكلفة جدًا، تدلل طريقة بنائها على المستوى المادي الذي كان يعيش فيه أصحابها"، متطرقًا إلى كيفية معرفة تاريخ تلك المنازل بقوله: "نتعرف على الحقبة الزمنية لأي مبنى من خلال قطع الفخار والأقواس والأعمدة التي نجدها عادة أثناء عمليات الحفر التي نقوم بها، وفي أحيان كثيرة من خلال الكتب التاريخية".

ولا يُخفي خبير الآثار إعجابه بمهارة مهندسي البناء في تلك العصور المتعاقبة، كون المنازل الأثرية التي يعكفون على ترميمها في قطاع غزة، بنيت بواسطة حجارة رُصت فوق بعضها البعض بدون حديد، لكنها صمدت أمام كل ما مر بغزة من حروبٍ وقصف.

وتمر عملية ترميم المنازل الأثرية وفقًا لهاشم بعدة مراحل، تبدأ بمعاينة الموقع، ومدى صلاحيته للترميم، ثم تعقيم المبنى وتنظيفه، ومن ثم تحديد خطوات العمل، قبل البدء فعليًا بمراحل ترميم المنزل، بشكلٍ جزئيٍ وتدريجي، وصولًا للكُل.

"العملية ليست هينة مطلقًا"، يقول هاشم، ويتابع: "نقوم بترميم مسافة نصف متر في السقف، ونتركه يومين كاملين قبل أن نتابع العمل، الأمر يحتاج إلى روية، وحذر، كما أننا لا نستطيع أن نستبدل أنواع الحجارة بغيرها، فإذا كان الجدار يحتاج إلى أحجار من الرخام، يجب أن نضع حجر رخام".

وعن كيفية اختيار العمال، يؤكد هاشم أن الأمر يحتاج إلى من يعرف قيمة تلك المنازل، وطبيعة حجارتها، وحساسية العمل فيها، ناهيك عن وزنها الثقيل، الأمر الذي يستدعي وجود عاملٍ ومساعدٍ له أيضًا"، مبينًا أن العمال غالبًا ما يشاركون في ترميم هذه المنازل وهم يعتريهم الخوف من أن يصيب حجارة البيت أذى "نظرًا لقيمتها المالية والتاريخية الكبيرة".

ويحذر هاشم من ترك البيوت الأثرية كما "الخرابات"، أو هدمها وتشييد أبراج سكنية مكانها، لما في ذلك من إهدار لقيمتها التاريخية التي تستوجب الحفاظ عليها، والعمل على إعادة ترميمها، مناديًا بعدم اللجوء إلى البناء مكانها أو حتى بجوارها، كرد على محاولات الطمس والتشويه الإسرائيلية التي تطال التاريخ الفلسطيني منذ عام النكبة 1948م.