كلمة "حرب".. كمينُ الذاكرة إلى "الموت" في تموز
تاريخ النشر : 2020-07-06 14:33

شبكة نوى | قطاع غزّة

السّادس من تمّوز/ يوليو لعام ٢٠١٤م، لن ننسى كيف اكتشَفْنا في هذا اليوم معنىً جديدًا للعدوان، أو "الحرب" كما يندرج على ألسنتنا نحن الفلسطينيون المحاصرون في قطاع غزة منذ ١٤ عامًا. نحنُ المحاصرون بين الموت القادم من الحدود، وذاك الآتي من السّماء، والموتُ الذي يتربّص بنا من بوارج حربية تغزو بحرنا الملوّث بمياه الصرف الصحي، والبارود أيضًا.

كيف تتذكرون "الحرب"؟ سؤالٌ وجّهناه هذه المرّة لزملاءٍ وزميلات يعملون في حقل الإعلام، أولئك الذين لاحقتهم فرضية "الموت" حينذاك (51) يومًا؟ فماذا كانت إجاباتهم؟

الصحفية نور أبو عيشة، وتعمل في وكالة الأناضول للأنباء، تقول: "حين أسمع، أو ينطق لساني بكلمة "حرب"، أصاب بقشعريرة تعيدني 6 سنواتٍ نحو الوراء"، تصمتُ قليلًا وتتابع: "الصحفي إنسان قبل أن يكون ناقلًا للحدث، نعم.. لقد خفنا وبكينا أمام القصص المؤلمة، كنا نصطنع التماسك حتى النفَس الأخير أمام أهالي الضحايا في سبيل نقل الحقيقة وفضح جرائم المحتل".

خلال العدوان، كانت الصحفية تزور مستشفى الشفاء باستمرار، ليس بحثًا عن القصص الإنسانية، فمشهد مشفى الشفاء كان قصّةً إنسانية بحد ذاته: تزاحم الهاربين من الموت، الإصابات، الشهداء، أصوات سيارات الإسعاف التي لم تكن تهدأ، وأصوات بكاء واستغاثات المصابين وذويهم، هذا كله يعود ليزور ذاكرتها دفعةً واحدة عندما تلفظ فقط كلمة "حرب".

أكثر المواقف التي أثرت بها كانت لطفلٍ -لا تنسى وجهه حتى اليوم- "وكان بعمر 4 سنوات، أمضى يومين كاملين ملقىً وحيدًا على أسرة مستشفى الشفاء، كان مصابًا يصارع الوجع لوحده، وقد علقت فوق سريره لوحة صغيرة كُتب عليها "مجهول""، تعلق: "هذا الطفل لم يكن يعلم أنه فقد أكثر من 20 شخصًا من عائلته بصاروخٍ واحد".

شيرين خليفة، الصحافية في شبكة "نوى" تروي أنه خلال حرب ٢٠١٤م، كانت الصحافيات جزءًا من الحالة، عندما عشن الخطر والخوف على عائلاتهن في بيوتهن، وأثناء عملهن في الميدان أيضًا.

لا تنسى شيرين القصف الذي تعرضت له منطقتها السكنية أكثر من مرة، ناهيك عن تعرض عدة مناطق زارتها خلال التغطية، للقصف! بل إن قصفًا استهدف عمارةً في أحد الشوارع بينما كانت تمر في آخره، فكُتب لها النجاة من موتٍ محقق.

تقول: "العمل الصحفي محفوف بالمخاطر، لم نتمكن من زيارة المناطق التي تعرضت للمجازر مثل الشجاعية، ولكن أتذكر جيدًا حين كتبت عن النازحين في ساحة مستشفى الشفاء، ولا يمكن نسيان الظروف السيئة التي عاشوها هناك أبدًا".

تذكر شيرين أنها تعرضت لدُوارٍ شديدٍ مرةً في قسم العظام، حين كانت رائحة الدم تفوح في المكان، كانت هذه هي المرة الأولى التي تشعر فيها بكل هذا التعب "لا سيما في شهر رمضان، وأمام مصابٍ احترق واختلط لون جلده بلون السكن".

وعن صعوبة العمل تتابع: "انقطعت الكهرباء في منازلنا لأيام، كنت أضطر لحمل جهاز "اللاب توب" والسير به مسافات طويلة بين بيتي وأقرب مكان تتوفر فيه كهرباء من أجل الكتابة، كان علي أن أقطع الطريق لساعةٍ ذهابًا وإيابًا، حيث كان السير في تلك الفترة أكثر أمنًا من ركوب السيارة".

الأقسى، مر على شيرين حين صارت عائلتها هي "الحدث"، مرةً عندما استشهد ابن خالها في قصفٍ إسرائيلي استهدف مدينة رفح جنوب قطاع غزة، فكان عليها الكتابة وفي الوقت ذاته المشاركة في استقبال المعزين داخل منزلها، ومرةً عندما استهدفت شقة شقيقتها التي كانت تتجهز لحفل زفافها، فخسرت كل ما جهزت له مع خطيبها هنا.

تقول شيرين "حين نكتب عن الحرب، نحن نكتب أيضًا عن ذواتنا ومعاناتنا والألم الذي عشناه، فسطورٌ قليلة في تقرير صحفي لن تكون كافية بالمطلق للحديث عما عشناه آنذاك".

نضال الوحيدي، وهو صحفي يعمل في فضائية النجاح، حدّث "نوى" عن أكثر موقفٍ أثر به خلال عدوان ٢٠١٤م، "حين ارتكب الاحتلال مجزرة بيت حانون، واستهدف مدرسة الوكالة في مخيم جباليا".

يقول: "والد أحد الأطفال الشهداء تقدّم نحو جثمان ابنه، وصار يصرخ ويناديه: أنا أحتاجك، أنا ليس لدي سواك، في تلك الأثناء، كنتُ أقف فوق الثلاجة في مستشفى كمال عدوان، حاولتُ تمالك نفسي وابتلاع انهياري، لكنني في النهاية بكيت"، متابعًا سرد المشهد بألمٍ بدا في نبرة صوته: "جلست على الأرض وطفيت الكاميرا، حاولت استيعاب كلام الأب لجثة هامدة، تمنيتُ مساعدته وإيقاظ ابنه، لكن ما كان هذا ليجدي مع الأسف".

منذ ذلك الوقت، وكلما سمع نضال كلمة "الحرب" يخطر بباله الفقد، سواء فقد أعزاء يحبهم، أو حتى فقد روحه، هذه الكلمة تعطي مساحةً كبيرةً للاحتلال كي يفرّغ كل جرائمه فيها.

حسام سالم صحافي يعمل بالقطعة، يقول: "تجربتي في عدوان ٢٠١٤م كانت عبارة عن تحدي، لم يكن لدي كاميرا يومذاك، فاستعرتُ واحدةً من زملائي، ولم يكن لدي جهة أراسلها، كنتُ أصور لنفسي، حتى الأسبوع الثاني من العدوان".

"الموت مكتوبٌ علينا، سواءً كنا صحافيين أو لا" يضيف الشاب الذي أخذ على عاتقه توثيق جرائم الحرب بالصور بمساعدة زملائه، من دون وسيلة نقل مستقلة، وحتى من دون أدوات سلامةٍ مهنية، فحتى المبيت كان بمساعدة الزملاء في أماكن عملهم أو في سيارات نقلهم لمواكبة الأحداث.

يصف "الحرب" بأنها كمين، ويتابع: "أكثر المواقف التي أثرت بي كانت جنازة عائلة بكر التي راح ضحيتها ثلاثة أطفال، لقد قتلوا ببشاعة في قصفٍ شهده العالم كله، بينما كانوا يلهون على شاطئ بحر غزّة". في ذلك الحدث شق والد أحد الأطفال قميصه من شدة الألم، كانت لحظةً فارقةً جدًا في حياته، لقد قُتِل ابنه وأبناء شقيقه أيضًا.

وليلة مجزرة الشجاعية لم تكن أخف وطأة أيضًا، لقد تواجد حسام للتغطية هناك برفقة "إسعافٍ" استشهد سائقه بعد أسبوعٍ من ليلة المجزرة. يشهد حسام لهذا المسعف بأنه حاول الوصول إلى مناطق القصف لإغاثة الناس "على مسؤوليته الشخصية" ولطالما حذرهم وطلب منهم النزول كي لا يصابوا معه بأذى، إلا أنه ومن معه من الصحفيين كانوا يرفضون ذلك تحت مظلة قناعتهم بأن الموت يتربص بهم "سواءً بقوا أو عادوا".

بعدسة حسام وعيونه، "الحرب" موت محقق يحاول النجاة منه باستمرار، سواءً في غزّة، أو في تركيا حيث هو اليوم، الصورة ماثلة أمام عينيه لا يمكنه نسيانها. "الحرب كمين يمكن أن يدركنا في أي زمان ومكان، نحن الفلسطينيون المقيمين في غزة سابقاً" يقول.