الأسرى المحررون.. في ذاكرة "التعذيب" جرحٌ غائر
تاريخ النشر : 2020-06-28 17:34

غزة:

"متُّ أكثر من مرة" كان وقع هذه العبارة قاتلًا في صدر والدة الأسيرة الفلسطينية ميس أبو غوش، بعد أن قرأَتْها بين سطور رسالةٍ وصلتها من ابنتها، تصفُ فيها التعذيب الجسدي والنفسي الذي تعرضت له في معتقل المسكوبية بمدينة القدس المحتلة، منذ اعتقالها في أغسطس/ آب من العام 2019م.

والدة ميس، شاركت في فبراير/ شباط من العام الجاري، بمؤتمرٍ صحفي، شاركها فيه العديد من أهالي الأسيرات والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ممن تعرّضوا للتعذيب الشديد "حتى أن ذويهم لم يتعرفوا عليهم".

ميس التي اعتُقلت بتاريخ 29/8/2019م من منزلها في مخيم قلنديا بمدينة رام الله، خضَعَت للتحقيق القاسي مدة (33) يومًا متواصلة، ولم يتمكن أحد خلالها من التواصل معها. تعرَّضت لتعذيبٍ يشمل الشبح والصفع المتواصلين وهي مغمضة العينين، ناهيك عن الشبح على الحائط، وفي وضعية الموزة والكرسي الوهمي.

ويقبع قرابة 6500 أسيرة وأسير فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينهم 70 أسيرة، فيما يعاني نحو 700 منهم من سياسة الإهمال الطبي، "وبينهم عدد من المصابين بالسرطان، وكبار السن، الذين يحتاجون إلى رعايةٍ خاصة".

ميس هي واحدة من مئات الأسرى الفلسطينيين الذين يتعرضون بشكل دائمٍ للتعذيب، ولما كانت الأمم المتحدة تعتمد تاريخ 26 يونيو/ حزيران من كل عام، يومًا عالميًا للتضامن مع ضحايا التعذيب، فإن هنا في فلسطين ثمة ضحايا لا يلتفت إليهم العالم.

تحكي الأسيرة المحررة فاطمة الزق قصة تعرضها للتعذيب خلال التحقيق الذي استمر 21 يومًا في سجن عسقلان، اكتشفت خلالها أنها حامل، لكن هذا الواقع لم يشفع لها أمام المحققين، الذين تعمدوا زيادة التعذيب بغرض إجهاضها.

اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي فاطمة عند حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة عام 2007م، وخضعت للتحقيق القاسي، ثم وضعت طفلها يوسف الذي قضى معها فترة الاعتقال مطلع يناير، وبقي معها حتى تم تحريرها في صفقة وفاء الأحرار عام 2011م.

طوال تلك السنوات، تعرضت فاطمة للتعذيب الجسدي والنفسي، تقول لـ "نوى": "أنا شاهدة على جرائم الاحتلال في تعذيب الأسرى من خلال تجربتي وغيري، إن أشد أنواع التعذيب تحدث في سجن عسقلان بعيدًا عن أعين العالم، ولطالما طالبنا المنظمات الدولية والحقوقية والصليب الأحمر، بالاطلاع على مرحلة التحقيق الأولي للأسرى، فهي الأكثر قساوة".

بدا صوتها مبحوحًا وهي تتذكر تلك الأيام التي تجاهد اليوم ذاكرتها كي تنساها: "هناك من تعرضوا للموت بسبب التعذيب، المرحلة الأولى للتحقيق هي الأكثر وحشية، فالاحتلال في تلك اللحظات لا يعينيه إلا انتزاع اعترافات أو تلفيق اتهامات".

لدى اعتقال فاطمة، وضعها المحققون في قبوٍ بعمق مترين، وعرض متر، مليء بالحشرات! فيه بطانية نتنة، جدرانه خشنة لم تتمكن حتى من الاتكاء عليها بعد تعرضها للضرب والتعذيب. "كل هذا بغرض كسر إرادة الأسرى" تعلق.

لدى اكتشاف حملِها، زاد المحققون من جرعة التعذيب البدني والنفسي، مما عرّض حملها لخطر الإجهاض أكثر من مرة، حتى في يوم ولادتها، جاءها المخاض بينما رفضَ الاحتلال فكَّ قيودها، غادرتها القدرة على الولادة ثلاث مرات بسبب الضغط النفسي الشديد الذي زاد من آلام الولادة.

تضيف: "عند الولادة رفضوا فك القيود، لولا أن تقدم الصليب الأحمر بشكوى، فكوا قدمًا واحدة وبمجرد أن وضعت طفلي قيدوني قبل حتى إتمام عملية التوليد الكامل".

لم يشفع لفاطمة حاجتها لرعاية خاصة، أمام عقليات محققين، كان كل همهم زيادة جرعة الألم، تكمل: "هذه التجربة تركت آثارًا نفسية سيئة، لا أستطيع تذكّر شيءٍ مما حدث معي طوال تلك السنوات، أحاول القفز عن تلك الذكريات المؤلمة ولكنها ما زالت تلاحقني".

طفلها يوسف الذي لازمها طوال فترة الأسر، هو أيضًا يتذكر الكثير من المفردات العبرية التي كان يسمعها، ناهيك عن تذكرها المستمر لنوبات الصراخ والبكاء التي كان يعيشها، كلما عادت لتدخل زنزانتها رغم صغر سنه، "لقد حرم من طفولته، كان يوسف أصغر أسير في العالم" تزيد.

تعتبُ فاطمة، على من يظن أن الأسرى المحررين لا يحتاجون دعمًا معنويًا يشد من أزرهم بعد خروجهم من الأسر، وتقول بنبرة استنكار: "كيف لا؟ بل يحتاجون الكثير من الدعم، أين هم من الأسرى الذين قُطعت رواتبهم؟ أين الدعم من الفصائل لي ولغيري من الأسرى المحررين؟.. ولطفلي الذي عاش تجربة الاعتقال قبل أن يعيش أي تجربةٍ أخرى في حياته".

الأسير المحرر رامي عنبر، نموذجٌ آخر، خرج من سجون الاحتلال قبل شهر، بعد قضائه 18 عامًا داخل الأسر حُرم خلالها من رؤية طفلته ريم التي وُلدت وهو هناك، بينما لم تفرح زوجته بأفضل أيامها حين اعتقل وهي ما زالت عروسًا.

لا تغادر ذاكرته تفاصيل التعذيب الذي تعرض له في سجون الاحتلال، برفقة زملائه الأسرى، يقول: "التعذيب نهج لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، كل الأسرى يتعرضون له، وهو يتفاوت بين نفسي وجسدي، بغرض كسر معنويات الأسرى، إلا أن أقسى ما مر علينا هو تعذيب الأسير سامر عربيد".

ويروي عنبر عن زملاء له،  بعضًا من مشاهد تعذيب "سامر" "البشعة"، فيضيف: "إلى درجة تآكل منطقة الكعبين وظهور العظم من اللحم، الأمر بشع حقًا، فالاحتلال يعمد إلى زيادة الترهيب النفسي بحق الأسرى من خلال هذه الممارسات".

أبرز ما يتعرض له الأسرى -كلهم- هو الضرب المتواصل، والشتم، والصفع، والشبح بوضعياتٍ مؤلمة تؤثر على الظَهر، هذا عادة خلال مرحلة التحقيق، أما عند التحويل للسجون فعلًا، فيتحدث عنبر عن أشكالٍ لا تقل ألمًا عن الممارسات التعسفية والمهينة.

يشرح ذلك بقوله: "لا يتحكم الأسرى عادة في مواعيد نومهم كما يريدون، فبمجرد أن يعلم الجنود بأن هناك أسيرًا نائمًا، يبدأون بالضرب على بوابات الزنازين لإزعاجه، ناهيك عن تقديم طعام لا يصلح للاستهلاك الآدمي، وما إلى ذلك من إهانة ومعاملة تحط بالكرامة، يقصد من خلالها الجنود إذلال الأسرى وكسر إرادتهم".

تعرّض الأسير عنبر للتحقيق مدة ثلاثة أشهر متواصلة في العزل الانفرادي، مارسوا خلالها ضده أشكالًا من التعذيب الجسدي والنفسي. يعقب: "آمل أن ينال باقي الأسرى حريتهم، ليتخلصوا من هذا المصير، لقد دفعوا ثمن إبقاء قضية الأسرى حية، من ربيع أعمارهم"، مضيفًا: "من المهم زيادة التضامن معهم، فهذا يرفع من معنوياتهم ويشد أزرهم".