حكايا (40) عامًا.. في جيبِ ذاكرة "الدّاية حورية"
تاريخ النشر : 2020-06-27 11:28

المغازي:

لأربعين عامًا، ظلت الثمانينية "حورية مصلح" تمارس مهنة "التوليد" في المنطقة الوسطى بقطاع غزة، لتجمع في قرطاس ذاكرتها، آلام النكبة التي عايشتها ابنة 11 عامًا، وآلاف الحكايا عن بهجة "شق النفس نفسَين" عندما أصبحت "داية معروفة" على يديها وُلِد آلاف الصغار.

تفترش الثمانينية "حورية" بطانية قماشية قديمة، في غرفتها المليئة بالوسائد المطبوع عليها صور فنانات الثمانينات. الغرفة المليئة بالفراش المحشو بالقطن "وكان منتشرًا آن ذاك" احتفظت بجوّها الكلاسيكي القديم، ما جعلها تفضل البقاء فيها، فلا تغادرها سوى صوب بعض الأشجار في المساحة المقابلة.

تبتسم وتتمتم: "ساق الله ع أيام البلاد"، حين بدأت تحكي عن بلدة "البطانة الشرقية" التي هُجرت وعائلتها على أيدي أفراد العصابات الإسرائيلية في عام النكبة 1948م، بعد أن كانت شاهدًا على عشرات المجازر التي ارتكبتها، وكان أقساها "استشهاد شقيقها، ثم موت أمها حزنًا عليه".

تقول :"كان عمري 11 سنة، كنا ساكنين في أرضنا ملكنا، وكان في كبانية –أي معسكر- لليهود جنبنا، اسمها كبانية "تعبيا" (تقع بين بيت داراس والسوافير وأسدود).. كانوا فقراء بس أمريكا دعمتهم".

لا تمر مناسبة دون أن تتذكر المسنة مصلح الجندي "مردخاي" الذي كان يعيش في المعسكر، ويتسوّل منهم الخبز، هو ذاته الذي هاجمهم برفقة العصابات الإسرائيلية، التي شردت سكان قريتهم صوب القرى المجاورة بالرصاص، هكذا حتى وصلوا إلى قطاع غزة.

تضيف: "جمعوا شباب المنطقة، كان خميس منصور ومعاه أبويا وكمان شاب من البطانة الغربية كان "حاطط" -أي خاطب- من قريتنا، رفعوا عليهم السلاح، وصرت أصرخ لإني عرفت راح يقتلوهم". تصمتُ برهةً قبل أن تكمل: "ضربني الجندي وصرخ بوجهي حكالي اسكتي، وفعلًا طخوا عليهم، ماتوا الاثنين، وأبويا وقع تحتهم بعد ما تصاوب برجله".

لا تنسى حورية ذلك الموقف البشع حين عصبت ساق والدها المصاب، وجرت تبحث عن من يساعدها، حتى مرّ رجل على حمار، فنقل والدها عليه باتجاه مدينة رام الله حيث تم إنقاذه هناك.

تستطرد بالقول: "هاجرنا من البطانة إلى القسطينة وبعدين المجدل، وصل خبر استهشاد أخويا سليم"، وكان حينها متطوعًا مع جيش عبد القادر الحسيني، آنذاك كانت حورية في المجدل، وهي تذكر حتى الآن، كيف ظلت والدتها تصرخ حتى توفيت حزنًا على ابنها الذي كان يبلغ 30 عامًا، وتم دفنها هناك.

هاجرت العائلة مرةً أخرى صوب رام الله ثم باتجاه قطاع غزة، حيث عاشوا في مخيم المغازي حياة العوز والفقر والاعتماد على مساعدات "وكالة الغوث"، بعد أن كانوا أصحاب وطن وأرض. عملت حورية منذ صغرها في مساعدة أصحاب الأراضي من المواطنين، مقابل بضعة قروش أو غلة تعود بها للعائلة.

وتستذكر كيف ظلت شهرًا كاملًا ترجع إلى بلدتها على ظهر حمار، بعد أن وصلت رام الله، تقول: "رحت على بيتنا، وجبت ليرات الذهب لزوجة أخوي، بس بعدين ما قدرت أرجع".

بعد أن استولت العصابات الإسرائيلية على كل البيوت وسرقت ما تركه الأهالي من مال وملابس، لم يعد لحورية شيئًا تبحث عنه هناك! كل شيءٍ أضحى ملكًا للغرباء هناك.

في قطاع غزة، كبُرَت "حورية" وزوّجت والدها بنفسها، ثم تزوجت حين بلغت (14 عامًا) ولمدة أربعة أشهر فقط! لقد توفي زوجها، فأعلنت عليه الحداد سنواتٍ طوال، ثم عادت فتزوجت تحت ضغط العائلة وأنجبت أبنائها الخمسة (ثلاثة ذكور وابنتين)، إلا أنه سرعان ما تزوج عليها بأخرى، فرفضت العودة له وقررت إعالة أولادها بنفسها.

في بيتها الصغير، المدهونة جدرانه باللون "الكرميدي" في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، قررت "حورية" الاعتماد على نفسها رغم شحّ فرص العمل، عملت بالمياومة، وفكّرت في مهنة الخياطة لكنها لم تُجدها، حتى تصادف زيارة سيدة ماليزية تعمل مع "وكالة الغوث" لها، وعرضت عليها العمل كقابلة "داية" فوافقت على الفور، كان ذلك حين بلغت من العمر (25 عامًا).

تُقلِّب السيدة حورية حقيبتها الطبية التي ما زالت تحتفظ بها حتى الآن، رغم توقّفها عن ممارسة المهنة منذ نحو عشرين عامًا، في عينيهيا الزرقاوين ترتسم ملامح ابتسامةٍ لا تخفيها تجاعيد وجهها الذي فعل به الزمن الأفاعيل، دون أن يُخفي بقايا جمال ورثه عنها أحفادها.

تعرفنا على محتويات الحقيبة قطعةً قطعة وتستفيض في الشرح: "هذه مقصات لقص الحبل السُري، وهذه اسمها الجفت عشان نفصل الخلاصة، وهذه صحون فيها الدوا والمياه السخنة للولادة، وهاي مصبنة، وهدا ميزان للطفل، وهدا جهاز فحص البول قبل التوليد، وهدا الشاش والقطن والجلفزات، لأن ممنوع نمسك شي بإيدينا، كله لازم يكون متعقّم ونظيف".

مقتنيات "حورية" هي كما مقتنيات معظم كبيرات السن "غالية جدًا على قلوبهن"، كان كلما اقترب أحد من أحفادها أثناء حديثها مع "نوى" ليمسك شيئً منها، تصرح في وجهه: "ابعدوا بلاش تخربوا شي"، تضيف وهي تمسك بالأدوات: "لازم يما نحافظ عليها، هاي بتضل ذكرى وتراث".

درست "حورية" التوليد، وحصلت على رخصة عمل خلال شهرين، تعلق: "كان قلبي قوي، قدمت امتحان ونجحت، وحملت الختم عشان كنت أختم كواشين -أي شهادات الميلاد- للنساء الوالدات".

تتذكر حورية أول ولادة مرت عليها، حين وضعت سيدة ثلاث طفلات مرة واحدة، ولم تكن حينها تعلم أنها تحمل توائم "فلم يكن هناك سونار"، لكنها لم تخبرها بذلك أبدًا خشية أن يصيبها الخوف. تعقب: "لو حكيتلها إنها حامل بأكثر من جنين، كانت خافت، وممكن يصيبها نزيف لا سمح الله، انتظرت بعد ما خلصت بساعة وخبرتها، تفاجأت كثير، بس كانت فرحتها كبيرة".

واصلت "حورية" عملها في مهنة "الداية"، وذاع صيتها بعد حالة التوليد الأولى، ثم اكتسبت مع الوقت الخبرة والمران، فباتت "مطلوبة" حتى في القرى والمخيمات المجاورة.

لا تنكر أبدًا الوضع المالي الممتاز الذي عاشته بفضل هذه المهنة، حيث ربت أولادها جميعًا، وعلمتهم من مردودها، وهي تفخر بأنه لكل منهم الآن حياته المستقرة.

أيهما أفضل، الولادة عند داية؟ أم عند طبيب؟ "الداية أكثر حنانًا" تجيب حورية، "فهي تشعر بألم الست في حالة الولادة، وتحاول أن تريح نفسيتها بالكلام الطيب، الداية لازم يكون لسانها سكّر مع الوالدة لأن نفسيتها بتكون تعبانة كثير، ووجعها شديد".

تزيد: "كنت أقعد جنبها، وأصلي ع النبي، وأقولها: يلا يما بالراحة، تحمّلي شوية، خلينا نشوف الطفل وتفرحي للعمر، وبالكلام الحلو بضل معها، وهدا مش موجود بالمستشفيات، لأن ما بيكونوا فاضيين، عندهم حالات كتير وفش تحسين لنفسية الوالدة" حسب ما سمعت من المجربات.

أشرفت حورية على ولادة أحفادها جميعًا، باستثناء مرة واحدة كان وضع الأجنّة لا يسمح بالولادة الطبيعية، وهي من حوّلت الأم إلى المسشتفى، فهي تملك الخبرة الكافية لتحديد وضع الجنين داخل الرحم.

السيدة التي تهوى التطريز، حتى الآن تفخر بأنها مارست مهنة "تنجيد الفراش"، حتى أن معظم بيوت "المغازي" يحتفظون بأشياء من تنجيدها، تعيش الآن السيدة على الكفاف في غرفةٍ صغيرة في حوش بيتهم، اختارت أن تجعلها عالمًا خاصًا بها وحدها.