"الاستقصائيات" وظروف التنقيب تحت السجادة
تاريخ النشر : 2020-06-25 15:03

"لا أحد يحب قيوده ولو كانت من ذهب"، هذه إجابة عن سؤال: كيف تعمل الصحفيات الاستقصائيات في قطاع غزة؟ إذ ليس بمقدور أحد أن يقول "إنهن لا يعملن"، لكنهن يواجهن الكثير من المعيقات في عملهن.

وإذا سلمنا بالتقديرات التي تفيد بأن 12% من مجتمع الصحفيين "استقصائي"، فإن نحو 2% من الصحفيات -على أبعد تقدير- يعملن كصحفيات استقصائيات.

هذه النسبة بحد ذاتها تمثل انعكاسًا واضحًا لتراجع الصحفيات عن خوض غمار الاستقصاء، انطلاقًا من المعيقات السياسية، والاجتماعية، والمهنية، التي تواجههن.

هذا لا يعني مطلقًا أن الصحفيين الاستقصائيين لا يواجهون المعيقات ذاتها، لا سيما أن واقع الصحافة الاستقصائية في الأراضي الفلسطينية، يشهد تذبذبًا كبيرًا يتناسب طرديًا مع الواقع السياسي والاجتماعي والأمني. غير أن الصحفيات الاستقصائيات، يواجهن الكثير من التحديات وسط هذه الظروف والمتغيرات.       

قياسًا على تجربة الإشراف على التحقيقات التي تنتجها صحفيات من قطاع غزة، فإنهن يجتهدن لأجل تسليط الضوء على القضايا المجتمعية المهمة، التي تشهد خرقًا إما للقانون أو انتهاكاً لحقوق معينة، لاسيما فيما يخص قضايا المرأة والعنف المجتمعي وغياب العدالة الاجتماعية والتقاعس عن إنفاذ القانون، إلى جانب محاولة معالجة ضعف مواد القانون وغيرها من القضايا.  

بيد أنهن يتعرضن إلى مخاطر نتيجة عملهن في هذا المضمار، وبخاصة إذا ما كانت قضايا مثار البحث "حساسة" وتثير حفيظة حاملي المسؤوليات، وتدفع باتجاه تهديد الصحفية بعدم الخروج عن النص أو طرح القضية أو رفض التعاون معها، غير أن الحصانة الوحيدة لهن أنهن يحتمين بنصوص القانون، حتى لا يكُن عرضة للمساءلة القانونية.

إلى جانب ذلك، فإن واحدةً من أكثر المعيقات التي تشكل حجر عثرة، هو غياب حق الحصول على المعلومة من قبل المؤسسة الرسمية في الكثير من القضايا، وبخاصة إذا ما كان الأمر منطويًا على الأرقام والإحصاءات حبيسة الأدراج، كقضايا الطلاق أو محاولات الانتحار، والإنذارات الخطية الخاصة بظروف العمل، وغيرها الكثير.

هذا الأمر يُلقي على كاهل الصحفيات المزيد من العبء والجهد، ويضطرهن إلى اللجوء لإعداد قواعد بيانات خاصة بهم، عبر استطلاعات الرأي والقياس على الموازنات والأرقام والإحصاءات القديمة، في سبيل تقديم معلومة أقرب إلى الصواب.

إضافة إلى ما سبق، فإن امتناع المسؤولين في كثير من الأحيان عن الإدلاء بآراهم ومواقفهم تجاه القضايا "المزعجة" مثار البحث والتحقيق، وتجاهل رسائل الصحفيات والتهرب بدواعي الانشغال، وجميعها سلوكيات تضع الصحفيات في مأزق كبير على اعتبار أن مساءلة المسؤولين أمرٌ حتمي في سياق التحقيقات الاستقصائية، التزامًا بالمهنية والموضوعية والتوازن في الطرح، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع.

وبالتالي، فإن غياب آراء المسؤولين يعيق تقديم أعمال صحفية متوازنة، مما قد يؤجل عملية النشر لفترة طويلة أو يحرم الصحفية من تقديم نتائج تحقيقها إلى الجمهور.

في السياق ذاته، فإن رفض الضحايا أحيانًا الكشف عن هويتهم يشكل عقبة كبرى أمام الصحفية، إذ يحول المادة الصحفية إلى مادة مبنية للمجهول ويتسبب لها بالضعف، على عكس الأشخاص الذين يمتلكون الجرأة في التعبير عن قضاياهم بصراحة دون خوف أو مواربة. ولهذا غالبًا تنطوي قصص الضحايا مجهولي الهوية على التشكيك وتفتقد إلى الزخم في المعلومات التي يحاولون عمدًا إخفاءها حتى لا تكشف هويتهم.

يستدعي هذا الأمر أن تقوم الصحفيات بالمزيد من البحث والجهد، وصولًا إلى ضحايا أو أفراد أكثر جرأة في تقديم شهاداتهم حول القضايا مثار التحقيق، وهذا الأمر يستغرق الكثير من الوقت.

ومع كل ما تقدم، لا تزال تشكل مسألة تقديم الإفادات الخطية من المؤسسة المعنية لجهات الاختصاص "حول أن الصحفية تحتاج إلى إجراء مقابلة صحفية أو الحصول على معلومة ما"، عائقًا كبيرًا أمام الصحفيات اللواتي يرتبطن بمواعيد للنشر، لا سيما أنه ليس هناك ما يمنع الجهات المسؤولة من منحها الحق في إجراء المقابلة، أو الحصول على المعلومة، لطالما كانت معرفة وتبرز بطاقتها الصحفية بشكل واضح وصريح.

عدا عن ذلك، فإن الانقسام السياسي فرض تعدد المرجعيات والسلطات، وهذا بحد ذاته كتحدي، لا يقل عن التحديات السابقة، على اعتبار أن الصحفية مضطرة للبحث عن بدائل للمجلس التشريعي مثلًا، لا سيما فيما يخص الحاجة إلى إقرار قانون أو تعديله، أو معالجة قضية رأي عام مثلًا.

فضلًا عن وجود مرجعيتين، إحداهما في قطاع غزة والأخرى في الضفة الغربية، وتشابك المسؤوليات أحيانًا يعيق تقديم تحقيقات صحفية متوازنة، على اعتبار أن هناك الكثير من القضايا التي تدخل في إطار المناكفة السياسية، مما يدفع الصحفية للاستماع إلى آراء الطرفين ومواجهتهما، وهذا يطيل أمد البحث والتقصي ويعيق في كثير من الأحيان الوصول إلى نتائج حقيقة. 

صحيحٌ أن الاستقصاء الصحفي مكلف ماديًا ومعنويًا ونفسيًا، لا سيما في ظل التحدي القانوني إذ يعمل الصحفيون/ات تحت إطار سلسلة من القوانين، والأنظمة، والتعليمات، التي تحد من عملهم وتهدده، إلا أنه يظل السبيل الأمثل لعلاج الكثير من القضايا المجهّلة، التي يحاول الكثير من المسؤولين وضعها تحت السجادة حتى يبدو المجتمع في صورة أفضل.

ولهذا ستظل المسؤولية الاجتماعية تجاه معالجة قضايا الرأي العام، والكشف عن شبهات الفساد والخروقات والتجاوزات القانونية، هي محرك أساسي وراء أي تحقيق صحفي يتبع المنهجيات المهنية لأجل تصويب هذا الواقع.

غير أن الثقافة القانونية، هي نقطة الارتكاز لأي صحفية تسعى لمواجهة أي شكل من أشكال الفساد أو معالجة أي من القضايا المجتمعية الحساسة. وبالتالي فإنه من الضروري التحذير حتى لا يصاب أحد بخيبة، من مسألة ضعف الثقافة القانونية، لأنه كلما قل الوعي القانوني كلما كانت الصحفية أكثر عرضة للمساءلة.