أصغوا إلى أنين الإجابة.. "شو يعني حصار"؟!
تاريخ النشر : 2020-06-20 09:52

قطاع غزّة:

كتب الاحتلال على الفلسطينيين في قطاع غزّة، أن تُلقي عليهم غمامة الموت المجاني عتمتها! في مجرى حياتهم اليومية يحاولون سلك طريقٍ معبدةٍ بدمائهم النازفة في سبيل "الشفاء" على امتداد عمر الحصار. 

المواطنون هنا "قُتلوا" وهم على قيد الحياة –مثلما يعبر بعضهم عن حاله- "لا شي يشعرهم بمعنى العيش سوى "أنفاسهم" التي تخرج بغصّةٍ وألم.

"شو يعني حصار؟" سؤالٌ ثقيلٌ بعمر 14 عامًا، أنجب أجيالًا حملوا مسمّاه، أطفالًا استيقظوا فجأة ليجدوا أنفسهم شبانًا وشابات! تجاوزوا الفكرة فإذا هم يصطفون في طوابير البطالة والعاطلين عن العمل، فيما أخذ مكانهم الأول جيل آخر أصغر سنًا، سيتخرج على الحال نفسه –دون أدنى مبالغة- هذا هو جيل الحصار الذي أنتجه الاحتلال إذن.

ليست مزحة، حين أدرك أطفال قطاع غزّة معنى "الحصار"، كانت أقدامهم قد حَفِيَت وهم يجوبون البقالات والدكاكين بحثًا عن مسليات الشيبس والشوكولاتة التي منع الاحتلال دخولها مرة، المشروبات الغازية أيضًا، هذه المرارة عاشتها حقيقةً "هديل حسين".

تقول: "في تلك الفترة، كان عمري 14 عامًا، كان من الصعب إقناع الأطفال بأن أكثر ما يسعدهم من حاجيات ومسليات، منع الاحتلال دخولها لأنه فرض حصارًا على القطاع (..) كنت دائمًا أسأل نفسي: إيش يعني حصار؟ طب ماذا يؤثر عليهم دخول الشيبسي والشوكولاتة؟ ما دخلنا نحن الأطفال بكل ما يحدث؟".

لم يكن يملّ الصغار حينها من التردد على العديد من الدكاكين للبحث عن مطلبهم، وعند اليأس -تتابع هديل- كانوا يلجأون لشراء البديل المحلي "الذي لم يكن بالجودة المطلوبة آنذاك"، تضيف: "لعل الحصار ساهم آنذاك في سعي المصانع المحلية لتحسين منتجاتها رغم منع المواد الخام، التي تلزم للتصنيع أيضًا".

كلّ شيء ارتفع سعره: الطعام والملابس والدواء والألعاب، تذكر هديل أيضًا، أن والدها الذي كان يعمل "عاملاً" في الأراضي المحتلة أصبح بلا مصدر رزق، حتى فرص العمل المحلية كانت تلفظ أنفاسها، اضطر للعمل في أي شيء، حتى أصيب بمرضٍ مزمن أدى إلى وفاته في النهاية.

وبينما كانت "هديل" تحصد نتائج الحصار قسرًا من ضرباتٍ بدأت بطفولتها حتى انتهت بوفاة والدها، كان حسام بدر 50 عامًا يضرب رأسه بالحائط كلّما آلمه ضرسه بسبب سقوط حشوة أسنانه "الرديئة"، نظرًا لارتفاع سعر النوع الجيد بسبب منع دخوله القطاع أيضًا، حيث تذرعت "إسرائيل" أنها تُستخدم في صناعة المتفجرات.

"لعنت الحصار والاحتلال، وتجاوزتهما إلى النقمة على اليوم الذي ولدت فيه، وأسموني فيه إنسانًا"، يروي حسام تفاصيل معايشته للحصار في أبسط الأمور، حين لم يجد حشوة أسنانه بسعر يناسبه، وحين مُنع دخول حليب الأطفال في الوقت الذي لم يكن فيه الطفل يتقبل حليب أمه، فأجبرت عائلته للبحث عن مرضعة! الحصار تجلى في أبشع صوره عندما قرر ابنه أحمد ترك مدرسته في الثانوية العامة، للعمل في البناء لمحاولة إنقاذ وضع عائلته المالي، وحين عمل ابنه المهندس الذي أنهى "بكالوريوس الهندسة" بالدين، بائعًا في محل ألبسة.

المهندس واسمه "محمد"، أخبرنا عن معنى الحصار بالنسبة له فقال بنبرةٍ تكسوها الغصة: "حصار.. يعني اليوم زي كل يوم، يعني لا تغيير بحياتنا سوى في تنامي أحداث البؤس، أو لعله يعني أن أدرس هندسة، وأعمل بائعًا في محل ملابس".

ويضيف: "كنت طفلًا حين فُرض الحصار، أنا اليوم شاب يعيش في محيط مسافة 365 كيلو مترًا، لم يتجاوزها منذ ولادته، لم أحظ بوظيفة، لم أسافر طوال حياتي، صدقًا: الحصار هي الكلمة التي تشربتها منذ طفولتي، أصبحت تجري في عقولنا مجرى الدم في الوريد، حتى أرواحنا صارت محاصرة، مرهونة للاحتلال الذي يقتلنا في كلّ آن".

الطفلة ريتال عواد 11 عامًا، ماذا تعرف عن الحصار؟ تلهو بدميتها وتضحك، عيناها تلمعان وهي تنظر نحو أمها وتجيب: "كل ما أقول لماما ليش إحنا ما بنسافر؟ بتقولي بس ينفك الحصار، كل ما أحكي لماما بدي لعبة جديدة، بتقولي بابا ما معو مصاري لأننا محاصرين، واليوم بس إجت كورونا صاروا يحكولنا كورونا وحصار، والله زهقنا".

الحصار الذي يتغلل بدمائنا منذ أكثر من عقد حتى بات كلّ ما يحدث في سياقه طبيعيًا، يحاول الناس إقناع أنفسهم أنهم تعايشوا معه، لكنه يعود ليظهر على شكل "غول" يبتلع أرواح مرضانا وصغارنا وشبابنا ونساءنا ورجالنا. هذا الغول الذي لا ينفك عن ملاحقتنا في يقظتنا وفي نومنا ومستهلّ حياتنا اليومية، لقد صرنا "جيل الحصار" منّا من تخرّج وتهجّر قسرًا، ومنّا من ينتظر.