رايات العرب.. جرح "النكسة" الغائر في قلب أبو دياب
تاريخ النشر : 2020-06-05 19:45

تتحلق حفيداته حوله في كلِ مرةٍ يزرنه فيها، يشترط عليهن ارتداء الثوب الفلسطيني ويخبرهنّ بأنه أحد أهم جذور التراث الفلسطيني على هذه الأرض المحتلة.

يقفُ أمام لوحةٍ كبيرةٍ لخريطة الوطن، ويبدأ بالإشارة بسبابته إلى العلامات التعريفية للمدن والقرى الفلسطينية المختلفة.

"هذه الخليل، وهذه جنين.. من منكن ستخبرني اسم هذه المدينة؟" يستقر إصبعه على جهة العاصمة، فتصرخُ إحداهن: "القدس"، يكون رده حينها: "وإن شاء الله راح نرفع فوق أقصاها علم فلسطين".

يواظب محمد أبو ذيب الذي يُكنى بـ "أبو دياب" على تعريف حفيداته بتاريخ القضية، وأسماء المدن والقرى الفلسطينية، بين الفينة والأخرى، قبل أن ينتقل إلى خريطةٍ أخرى تخص النقب -تحديدًا مدينة بئر السبع- التي هُجّر منها عام 1948م وهو في العاشرة من عمره.

يرى الثمانيني  أبو دياب في ذلك حفاظًا على العهد، وإعلانًا متجددًا للانتماء للقضية الفلسطينية، التي حارب من أجلها كجنديٍ في حرب عام 1967م، وقد خصص غرفةً في بيته أسماها "الديوان"، زيّن جدرانها بمجموعةٍ من الأسلحة البيضاء كالخنجر والسيف، ناهيك عن قطعتي سلاح، إحداها من نوع كارلو والأخرى قطعة سمينوف.

يقف بفخرٍ أمام كل هذه القطع، ويقول: "حافظت عليها كما حافظت على أبنائي، الاحتلال لا يعرف لغة السلام، ومهما مددنا أيدينا لتحقيقه سيستمر في محاولة تهويد الأرض والسيطرة عليها".

حرب الأيام الستة أو النكسة كما يُطلق عليها، لا تزال أحداثها ماثلة أمام عينيه، يعلق: "كيف لا أذكرها، وقد كنا ماضون نحو الحرب وكلنا ثقة بالنصر، كنا نؤمن بأننا سنصل تحت قيادة مصر إلى تل أبيب، ونحرر كامل الأرض التي احتُلّت عام 48م".

يتابع:" رغم مرور كل هذه السنين إلا أن النكسة كانت من أشد الأحداث صعوبة"، ويبدأ برواية ما حدث وقد كان جنديًا في الجيش المصري آنذاك: "إسرائيل لجأت إلى الخداع، بعد أن ضربت المواقع العسكرية المصرية والسورية واستولت على سيناء، والجولان".

توقف برهةً، وعاد بذاكرته إلى ما قبل 53 عامًا، ثم استرسل بغصة من توجّع لتوه: "لم نستسلم، وقاومنا حتى النهاية".

ما زال الثمانيني الذي يتمتع بذاكٍرة حديدية، يذكر كيف سقطت غزة: "رأينا مئات الدبابات قادمةً من سيناء، كانت ترفع الأعلام العربية، ظننا أنها الجيوش العربية جاءت لتحارب معنا، لكن الصدمة كانت عندما اكتشفنا أنها دبابات للجيش الإسرائيلي".

يصف أبو دياب مصر حينذاك بالنسر الذي فقد جناحيه، بعد أن ضربت إسرائيل مواقعها وأسقطت طائراتها، مؤكدًا أن قطاع غزة قاوم حتى آخر رمق.

يتابع: "لم نسمح لهم بدخولها من جهة المنطار، كما لم تستلم كتيبة خانيونس، ولكنهم دخلوها بالخداع بعد أن رفعوا أعلام الدول العربية على دباباتهم فظننا أنها جيوش العرب، وكانت الخديعة هذه هي الخديعة الكبرى التي تعرضنا لها".

لا يعبأ الحاج أبو ذيب بكل تلك الصفقات التي تروج لها الولايات المتحدة منذ بدء العام، ولا الحديث عن قرارات ضم الأغوار، ويؤمن أن النصر آتٍ لا محالة، لكنه يرى أن الشرط  الأهم لتحقيق النصر، هو أن تنهي الفصائل الفلسطينية هذا الفصل البائس من حياة الفلسطينيين، الذي بدأ قبل 13 عامًا عندما تصادم إخوة الدم. يزيد: "المصالحة الوطنية هي السلاح الأشد فتكًا ضد الاحتلال، وهي وحدها القادرة على أن تداوي جرح النكسة الذي ما زال يسري في قلوبنا، ويمثل أمام أعيننا".

من الأحداث التي تركت أثرًا مؤلمًا في قلب أبو ذياب، هو ما رآه بأم عينه عام 1956م، عندما قتلت "إسرائيل" بدمٍ بارد ما يقارب 500 شخص، "وجدار خان يونس يشهد" يقول.

ويتابع: "لا يغيب عن مخيلتي بعد كل هذه السنوات، مشهد سيدة يريد الاحتلال أن يأخذ ابنها الوحيد لإعدامه أمام جدار القلعة، أخذت تتوسل للضابط أن يأخذ مصاغها الذهبي ويترك وحيدها، فقبل وأخذ المصاغ لكنه لم يفِ بوعده وأعدم الشاب أمام عيني أمه".

يلف أصابعه حول قطعة سلاحه القديمة، ويختم:" إسرائيل لا تعرف لغة السلام، ولم تصدق في أيٍ من وعودها، لا تعرف سوى لغة الدم الذي  ينساب منذ ما يزيد عن سبعين عامًا ويروي ثرى الوطن".